الوعي هو ناتج أساسي من الأحاسيس الخارجية المستمدّة من البيئة ، فالحواس تنقل المعلومات الحسّية إلى جذع الدماغ ، و خاصة التشكّل الشبكي RETICULAR FORMATION ، و الذي بدوره ينقل و يوزّع هذه المعلومات إلى المناطق المختصّة في القشرة الدماغية و التي تغذّي بدورها ، و بشكل ارتجاعي ، التشكّل الشبكي الذي يعمل على نقل ردود الأفعال إلى الأعضاء الحركية للتعامل مع المستجدّات البيئية .هذا هو التفسير العلمي لعملية أو ظاهرة "الوعي" .
بالإضافة إلى المشكلة الكبيرة في تعريف "الوعي"، فقد كان لهذا الموضوع تاريخ مثير . هذا الشيء الذي يعدّ عنصر رئيسي في مجال علم النفس ، قد عانى في بعض الفترات من زوال كامل من ساحة علم النفس ، ليعود بعد حين و يصبح موضوع مثير للاهتمام الأكاديمي ،ثم يعود ليختفي مرّة أخرى. و هذا هو السبب الذي جعل التقدّم في مجال دراسة "الوعي"بطيء للغاية .
جميع الجدالات التي دارت حول حالة "الوعي" ظهرت من دراسات مختلفة حول علاقة العقل بالجّسد ، و التي أثارها الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" في القرن السابع عشر . فقد تساءل ديكارت: هل العقل منفصل عن الجسد ؟ هل للوعي أبعاد (كيان مادي)؟ أو أن الوعي دون أبعاد (كيان غيرمادي)؟ هل الوعي هو المحرّك لسلوكنا أو أنه موجّه من قبلنا ؟.
أما الفلاسفة الإنكليز مثل "جون لوك"، فقد ربطوا حالة "الوعي" بالحواس الجسديّة و المعلومات الحسّية التي تزوّدها ( اللمس ، النظر ، الشم ، السمع ،....) .
بينما فلاسفة أوروبيون آخرون مثل "غوتفريد ولهلم ليبنز" و"إمانويل كانت" ، فقد أعطوا لحالة "الوعي" دوراً مركزياً و أكثر فاعلية .الفيلسوف الذي كان له تأثير مباشر في الدراسات و الأبحاث اللّاحقة عن حالة "الوعي" كان "يوهان فريدريك هيربيرت"، الذي كتب في القرن التاسع عشر يقول:
" إن الأفكار قد تتصف بالجودة أو الكثافة ، و يمكن للأفكار أن تنهي بعضها أو تقوم بدعم و تسهيل بعضها البعض " ، و قال أيضاً : " يمكن للأفكار أن تنتقل من حالة واقعية (حالة واعية) إلى حالة مزاجية لاإرادية (حالة لاوعي) ، و يوجد خط فاصل بين كلا الحالتين يسمّى عتبة الوعي " .
هذه الصيغة التي أوجدها "هيربيرت" كانت الخطوة الأولى في الإتجاه الذي سلكه بعده "غوستاف فيشنر" (والد الفيزياء النفسية) PSYCHO-PHYSICS ، و "سيغموند فرويد" صاحب مفهوم اللّاوعي UNCONSCIOUS فيما بعد .
يعود تاريخ التجارب المخبرية على ظاهرة "الوعي" إلى العام 1879م , عندما بدأ عالم النفس الألماني "ويلهم ماكس وينديت" بأبحاثه المخبرية . كان هدفه في تلك الأبحاث هو دراسة بنية "الوعي" و تركيبته ، بما فيه من عناصر الإحساس ، و الشعور ، و التصوّر ، و الخيال ، و الذاكرة ، و الانتباه ، و الحركة , و غيرها من عناصر تعتبر امتداداً لحالة "الوعي".
و اعتمدت أبحاثه على التقارير الناتجة من تجارب أشخاص في الحياة اليومية ، هذا النوع من البحث (الاعتماد على تقارير أشخاص) طوّره عالم النفس الأمريكي "أدوارد برادفورد تشنر" في جامعة كورنيل .
توصّل " تشنر" إلى توصيف بنية العقل معتمداً على تلك الطريقة ، فبواسطتها استطاع تحديد أنواع التذوّق و مناطقها في اللسان،و قسّمها إلى أربعة أقسام : الحلاوة ، المرارة ، الملوحة ، الحموضة .
في العشرينات من القرن العشرين ، حصل انقلاب جذري في علم النفس ، مما أدى إلى تهميش موضوع "الوعي" بشكل كامل ، و كان سبب رئيسي في إبعاده عن الساحة لمدة خمسين سنة مقبلة .
لقد احتلّ موضوع "السلوك" الساحة ، و كان ذلك على يد شخصيات لها حضور كبير في علم النفس ، كالعالم الأمريكي "جون برودوس واتسون" الذي ذكر في مقالة كتبها عام 1913م:
< أنا أعتقد أنه يمكننا أن نكتب في علم النفس دون استخدام مصطلحات مثل الوعي ، حالات عقلية ، العقل ، التصوّر ، و ما شابه ذلك من مصطلحات .>
فتوجه الباحثون في علم النفس نحو الموضوع الجديد "السلوك"، و قاموا بتركيز جلّ اهتمامهم في هذا الاتجاه بشكل شبه حصري . فراحوا يدرسون المصطلحات الجديدة التي ظهرت حينها مثل "رد الفعل" و "الاستجابة" و "المنبّه" و "التنبيه" و غيرها من مصطلحات جديدة . فتمّ إهمال موضوع "الوعي" بشكل كامل.
و إذا راجعنا أشهر الدراسات التي تخصّ علم النفس بين عامي 1930م و 1950م ، نجد أن موضوع "الوعي" لم يذكر إطلاقاً ، و إذا ذكر في بعض هذه الدراسات ، فيتعاملون معه كموضوع تاريخي انتهت صلاحيته في مجال علم النفس . ربما لهذا السبب أخذت أفكار"سيغموند فرويد" وقتاً طويلاً لتجد لنفسها مكاناً بين الأفكار السائدة .
خرج "سيغموند فرويد" على العالم بنظرية "الكبت" ، و قال أن الكبت يولّد الانفجار ، و معنى ذلك أن كبت الرغبات و الأفكار خاصة الجنسية تسبّب إضطرابات نفسيّة . ( قال ذلك في وقت غير هذا الوقت حيث كان الجنس مكبوت و حتى الكلام فيه كان محرّماً ) .
و قسّم فرويد العقل إلى منطقتين ، و شبّه العقل بجبل جليدي يطوف فوق مياه البحر ، و ما ظهر فوق السطح هو "الوعي"الذي هو ضئيل جداً إذا ما قيس بما خفي تحت سطح الماء (اللّاوعي) .
و قسّم شخصية الإنسان إلى ثلاثة أقسام أساسية هي :
(الإد) و (الإيغو) و (السوبر إيغو) .و منطقة (الإد) هي التي تكون لا واعية كليّاً .
قال فرويد أن الأمراض النفسية هي نتيجة الصراع بين الرغبات المكبوتة في اللاوعي و القوى الكابتة ، و مكانها هو بين العقلين الواعي و اللاواعي ، و من هنا تأتي المقاومة التي يبديها المريض لطبيبه ، خصوصاً في المراحل الأولى للعلاج النفسي .
و اتبع فرويد طريقة جديدة في العلاج النفسي معتمداً على المبادئ التي استنتجها ، و أطلق على أسلوبه الجديد اسم "التحليل النفسي" psychoanalysis التي لم تكن معروفة حينها .
(أقسام العقل حسب نظرية فرويد)
مع فرويد جاء كارل غوستاف جونغ 1875م 1961م ، و أضاف جديداً إلى ما عرف "باللاوعي" . كان جونغ فيلسوفاً أكثر منه طبيباً ، على عكس فرويد الذي كان طبيباً أكثر منه عالماً نفسياً .
درس جونغ التراث الحضاري في كل من الغرب و الشرق ، خاصة في الهند ، ثم استنتج أن الدلائل تشير إلى أنه يوجد عقل لاواعي "عام" إلى جانب العقل اللاواعي "الخاص" في كل إنسان . و سمى هذا العقل ب"اللاوعي الجماعي" أو "اللاوعي السلالي" collective unconscious . فهو العقل المشترك بين جميع الأجناس و السلالات على السواء . و إن محتويات اللاوعي السلالي لم تكبت بل موجودة ، أي توارثت و تعاقبت مع الإنسان على طول نشأته و ارتقائه .
و هذا العقل الجماعي هو السبب وراء توارد الأفكار و الصور أو نشوء عادات متشابهة بين أفراد أو شعوب يفصل بينهم مسافات بعيدة أو حواجز يصعب اجتيازها مما يجعل الإتصال بينهم مستحيلاً .
إن إثبات صحة أفكار "فرويد" و "جونغ" لازالت مرفوضة من قبل الكثير من المدارس السيكولوجية . فبعض الأطباء ما زالوا يرون أن مفهوم "اللاوعي" هو فكرة غامضة غير واضحة .
و قد تكون عبئ زائد غير ضروري في عملية تفهّم حالتي العقل الصحية و المرضية . و قد طرحت نظريات كثيرة بهدف شرح ما هو المفروض أن تعنيه فكرة "اللاوعي" . و كانت إحدى ردود الفعل المضادة لنظرية فرويد هي نظرية "ألفريد أدلر" .
و من جهة أخرى ادعت الكثير من الأبحاث و الدراسات السيكولوجية بعدم إستناد نظريتي "فرويد" و "جونغ" بخصوص اللاوعي على أي أساس أو حتى دليل علمي ملموس ، فلم تأتي مصداقية هذه النظرية من أي دراسة مخبرية أو تجريبية .
للأسف الشديد ، فالمناهج الدراسية التي ينشأ على أساسها الفرد ، تتبع منظومة علماء النفس و أفكارهم الأكاديمية الناقصة ، و التي لا تكشف عن الحقيقة كاملة . أما القسم الآخر من الحقيقة ، فيتجاهلونه تماماً ، مع أنها واضحة جليّة .
في الوقت الذي كان فيه علماء النفس البارزين منشغلين بموضوع "الوعي" و يتخبطون في هذا المجال المليء بالمصطلحات و الأسماء العلمية الطنانة التي يبدو أنها لا تعمل سوى على تعقيد الموضوع أكثر و أكثر ، نجد أن أشخاص آخرين من خارج العالم الأكاديمي الرتيب قد توصلوا إلى اكتشافات مهمة تقربنا أكثر من مفهوم الوعي .
نذكر على سبيل المثال ، الاكتشاف المثير الذي توصل إليه كليف باكستر ، عن طريق الصدفة ، و الذي يتجلى بأن "البيضة" التي اشتراها من المتجر ، تتمتع بحالة وعي كما أي كائن حي آخر !..
لقد ذكرنا سابقاً عن كليف باكستر و تجاربه المثيرة على النباتات و قدرتها على الإدراك و قراءة الأفكار و التعاطف و الخوف و غيرها من انطباعات مختلفة تشير إلى أنها كائنات عاقلة . و استخدم جهاز البوليغراف من اجل تسجيل تلك الانطباعات المختلفة .
في إحدى المناسبات ، بعد أن أخرج باكستر " بيضة " من الثلاجة و أراد كسرها في صحن و إطعامها لكلبه ، لاحظ حصول ردود أفعال غير طبيعية في جهاز البوليغراف الموصول بإحدى نباتاته المنزلية !. فأراد التعرّف على السبب . هو يعلم مسبقاً أن النباتات لا تتجاوب عاطفياً إلا مع الكائنات الحية و ليس الجامدة . و لكي يتأكد من أن هذا التجاوب الذي أبدته النبتة قد يكون تجاه البيضة ، قام بوصل جهاز البوليغراف بالبيضة ليعرف إن كان لها رد فعل ما .
و بعد تسع ساعات من الدراسة و البحث المتواصل ، اكتشف باكستر حقيقة جديدة لم يتوقعها أحد و فتحت الأبواب على مصراعيها في مجال الوعي !. "" البيضة واعية !!!. و كانت ردود أفعالها تختلف حسب الحالة !. و كانت تسجّل جميعها على جهاز البوليغراف.
و رغم أن باكستر قد اشترى بيضه من الأسواق التجارية ( أي أنها غير مخصّبة ) إلا انه اكتشف أنها تعطي إشارات تدلّ على أنها حيّة ! و سجّلت على الجهاز إشارات محددة تتناسب مع نبضات القلب التي يظهرها أي جنين موجود في بيضة عادية بعمر ثلاثة إلى أربعة أيام خلال مرحلة الحضانة ( أي 160 إلى 170 نبضة في الدقيقة الواحدة ) .
و بعد أن كسر البيضة و تفحّص محتواها وجد أنها خالية من أي بنية فيزيائية ، ما وجده هو المحتوى العادي أي الزلال و الصفار !. فتوصل إلى أن هذه النبضات صادرة من قوة خفية لم يتوصل العلم إلى اكتشافها بعد ... طاقة كونية غامضة
أما الفاكهة و الخضار ، فقد أظهرت حالات مشابهة من الوعي . رغم أنها قطفت من أشجارها و خزّنت لفترات طويلة ( قبل أن تذبل ) !. أقيمت تجارب كثيرة حول هذه الظاهرة ، أشهرها هي تلك التي أقامها الباحث الكيميائي " مارسيل فوغيل " Marcel Vogel. فوجد أن ورقة النبات إذا قطفت من النبتة التي تنتمي إليها ، تبقى محافظة على حالة وعي خاصة بها .
و قد تم اكتشاف حقيقة أن حبة الخضار ( كالجزرة أو الملفوفة ) ، عندما تشعر بأنها سوف تتعرّض للطبخ أو التقطيع ، تدخل بحالة إغماء ( غيبوبة كاملة ) لكي تتجنّب الألم الذي ينتج من هذه العملية !. فيسجّل الجهاز فجأة حالة سكون و لا يعطي أي إشارة أو رد فعل من حبة الخضار أو الفاكهة قبل عملية التقطيع بفترة معيّنة .
هل يمكن أن تفسّر هذه الظاهرة حقيقة أن الشعوب الوثنية القديمة كانت تعلم بها ، و كانوا يقيمون طقوس معيّنة قبل أكل أي فاكهة أو خضار أو نبتة ؟.. الهنود الحمر و الأبوريجينال في أستراليا و البوشمان في أفريقيا و غيرهم من شعوب حول العالم .. كانوا يتلفظون عبارات معيّنة قبل أكل النبات . هل هذه وثنية أو شعوذة أو عبارة عن تخلف فكري و جهل كما يقوله عنهم المتحضرين ؟؟. و كيف لنا أن نعلم في الوقت الذي تم إبادتهم و القضاء على عاداتهم و تقاليدهم بالكامل !
لقد ظهرت في العقود القليلة الماضية الكثير من الحقائق المناقضة للمفهوم العلمي المنهجي حول موضوع الوعي . جميعها تشير إلى أن الوعي هو عبارة عن نوع من الطاقة .. طاقة كونية لا زالت غامضة .. طاقة عاقلة مجهولة المصدر .. آلية عملها غامضة ..! لكن إذا قمنا بتغير نظرتنا التقليدية تجاه موضوع الوعي .. هل نستطيع التوصّل إلى الحقيقة ؟
في هذا البحث سوف نقوم بدراسة مفاهيم جديدة للوعي ، و قد ظهرت مؤخراً على الساحة العلمية بقوة مما يصعب تجاهلها ، رغم أنها لا زالت غريبة عن المناهج العلمية التقليدية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق