إن التحرر من تربية الأطفال يؤدي إلى
بداية مرحلة جديدة من حياة الوالدين، في هذه المرحلة سيكون عليهما تقبل وتحمل غياب
وابتعاد أولادهم عنهم، والحزن الشديد الذي يخلفه فراغ العش بعد طول امتلاء. ردة
الفعل أمام هكذا حالة تختلف تبعا لطبع ونمط عيش كل شخص على حدة.
عندما نتحدث عن فراغ العش، فإننا
نشير إلى التحول الهائل الذي يعرفه البيت عندما ينطلق الأبناء لبداية حياة من نوع
آخر، إما لتكوين أسرة جديدة أو لأسباب مهنية أو فقط بحثا عن الاستقلال عن الأبوين
ليس إلا.
وفي الواقع تتغير حياة الأبوين بسبب
هذا الوضع الجديد، فجأة، يجدان نفسيهما وحيدين ولا يعرفان حتى ما يجب عليهما
القيام به، فالأولاد لم يعودوا في المنزل، وهذا يعني سلسلة من التغييرات
في حياتهما.
سيكون عليهما تقبل هذا الغياب والتكيف مع الوضع الجديد، ولكن قبل كل
شيء، سيكون عليهما التغلب على الشعور بالوحدة والفراغ الذي يحسان به عندما يغادر
الأولاد المنزل.
مرحلة جديدة
هذا الوضع يؤدي إلى بداية مرحلة
جديدة في تطور كل أسرة، وتنطلق هذه المرحلة مع رحيل آخر طفل من المنزل، فيجد
الأبوان نفسيهما أمام ما يجوز أن نسميه "العش الفارغ"، فلقد اختلف البيت
كليا عما كان عليه من قبل، كل شيء قد تغير، والاهتمام متركز أساسا على شريك الحياة
أو على الذات.
فلقد ولى زمن المناقشات والضوضاء
والدخول إلى المنزل والخروج منه من طرف هذا وذاك، وانتهى زمن القلق المستمر على
الأطفال أيضا.
تبدأ الآن مرحلة جديدة حيث العلاقة
مع الأطفال مختلفة، إذ يبدأ الأبوان بالنظر إلى أولادهم نظرة مختلفة عما كانت عليه
في السابق، يرون فيهم أشخاصا بالغين، مستقلين، وواعين بما أقدموا عليهم من استقلال
في حياتهم واعتماد على أنفسهم، ويرون أنفسهم بأنهم لم يعودوا بتلك
"الأهمية" لأبنائهم.
إن مغادرة الأبناء للمنزل يمكنها أن
تصبح عامل اقتراب وليس ابتعاد، فهذا المعطى الجديد يسمح للجميع بتوفير المزيد من
التحرر في العلاقة والرضا عن نوعيتها، ففي هذه الحالة، فقط يتغير نمط ومكان العيش،
بينما المشاعر وسبل الاتصال تبقى هي ذاتها.
من جانب آخر، يعود الأبوان في هذه
المرحلة إلى الاجتماع مرة أخرى كزوجين، هي بالتأكيد مرحلة صعبة في حياتهما، وإذا
تمكنا من الحفاظ على مشاعر الحب طوال حياتهما، فسيساعدهما هذا على تجاوز غياب
الأبناء، وسيكون هذا الحب المتجدد مفيدا جدا لهما، وسيتمكنان بفضله من العودة إلى
عيش حياتهما الخاصة برغبة متجددة وبتطلعات أكبر.
المرأة أمام العش الفارغ
موقف المرأة أمام فراغ عشها يختلف
حسب نوعية الحياة التي تعيشها، فهناك فرق شاسع بين النساء اللواتي يعملن خارج
المنزل وبين النساء اللواتي اخترن تخصيص حياتهن حصرا للعمل المنزلي ولرعاية
الأطفال.
ففي
الحالة الأولى، لا يكون لمغادرة
الأبناء للمنزل ذلك الوقع الكبير على حياة الأم العاملة خارج المنزل، فتمر
عليها
الأمور سريعا وبشكل طبيعي دون خوف من الصدمة أو من البقاء وحيدة، فهؤلاء
الأمهات
لديهن حياة نشطة خارج المنزل ومشاريع شخصية جانبية، طبعا ككل الأمهات سيعشن
الفرق بين وجود الأبناء في المنزل من عدمه، لكن حياتهن لن تتغير كثيرا.
أما في الحالة الثانية، التي تقضي
فيها الأم معظم وقتها في البيت بين العمل المنزلي ورعاية الأبناء، فالحياة عندها
يمكن أن تفقد كل المعاني، فلقد تمحور عملها في السابق حول الأطفال، ومع ذهابهم
تعرف حياتها تغييرا جذريا، فلا مجال لأي مشاعر سوى القلق المتواصل والفراغ الشديد
والألم الصامت، فرحيل الأبناء بالنسبة إليها خسارة عظيمة تفقد من خلالها كامل
هويتها كأم، فتجد من الصعب التكيف مع الوضع الجديد ولا تعرف حتى ماذا تفعل.
ولا ننسى أيضا بأن ثمة أمهات لا يمنعهن
شغلهن المنزلي الأساسي من تنمية شخصيتهن والتمتع بحياة مليئة بالأنشطة، سيفتقدن
أبناءهن أي نعم، لكن الأمر سيكون سهلا عليهن لأن حياتهن مليئة باهتمامات أخرى.
وفي الواقع لا يتعلق الأمر بأن تعمل
المرأة أو لا خارج منزلها، بل بما تستطيع أن تملكه كل امرأة من أنشطة وموارد
تستطيع عبرها الإبقاء على حياة لها معنى، ونقصد هنا بالموارد التوازن العاطفي،
الثقة بالنفس، الكرم، والقدرة على التكيف بسرعة مع الأوضاع الجديدة.
فالنساء اللواتي لا يمتلكن واحدة أو
كل هذه الخصال، لن يستطعن تقبل ذهاب الابن، فيحاولن الإبقاء على السيطرة القديمة
عليه، و"ابتزازه" لقضاء أطول وقت ممكن إلى جانبهن.
الأمر يتعلق أيضا بنوعية العلاقة
التي تجمع الأم بزوجها، والد الأبناء، فإذا حافظا على قوة الحب ومتانة العلاقة بينهما،
سيتقبلان بيسر الوضع الجديد، بل سيستفيدان منه.
في المقابل، إذا لم تجد الأم الدعم
المعنوي الكافي من شريك حياتها، ستصبح حياتها متوقفة على قرب أو بعد أبنائها منها،
وستبحث لديهم عن العطف الذي لم تجده لدى زوجها.
هذا النوع من الأمهات غالبا ما يستخدم قوته
العاطفية للاحتفاظ عاطفيا بالأبناء، بل حتى للتدخل في حياتهم الزوجية الخاصة، فإذا
لم يكن لهؤلاء الأولاد ما يكفي من النضج العاطفي، فإنهم لن يستطيعوا منع حدوث بعض
المشاكل في علاقتهم بأزواجهم، بل قد يصل الأمر بهم إلى الافتراق.
وهكذا، علينا أن نبين بأنه على الرغم
من كون هذا الإحساس بالوحدة والفراغ يمس كلا من الأب والأم، فإنه يكون أكثر وضوحا
لدى الأمهات، فمنذ القِدم اعتُبرت الأمومة دائما الدور الأهم في حياة كل امرأة،
وحياة الأم عادة ما تكون أكثر ارتباطا بالأبناء من غيرهم.
كيف نواجه العش الفارغ؟
على الآباء جميعهم أن يكونوا على
استعداد لتحمل آلام الحزن والوحدة بسبب رحيل الأبناء عن المنزل العائلي، سيكون
عليهم تجاوز ذلك في أقرب وقت ممكن ومواجهة المرحلة المقبلة بإيجابية.
بعض
الاقتراحات التي يمكن أن تساعد الآباء على مواجهة هذا الأمر بمواقف إيجابية:
- التفكير دائما بأن الأولاد قد كبروا
وأصبحوا ناضجين وقادرين على العيش بكامل الاستقلالية والتصدي لوحدهم لكل الصعاب
اليومية.
- الاعتقاد التام بأن رحيل الأبناء عن
المنزل لا يعني قطع العلاقة معهم، بل بداية علاقة مختلفة ومبنية على التواصل بدل
الروتين اليومي، علاقة أكثر توازنا ومساواة نتابع من خلالها تطور أبنائنا عن بعد
كأشخاص ناضجين، ومن يدري؟، فقد يأتي خروج الأولاد هذا بدخول آخرين نكون لهم
أجدادا.
- إعادة النظر في الحياة الزوجية، وإن
الفرصة لمواتية لاستئناف الحياة المشتركة كزوجين، الآن يمكننا تحقيق كل المشاريع
التي كنا نحلم بها وكانت التزاماتنا العائلية لا تسمح بذلك، حان الوقت للاستمتاع
بالحياة وبالفرص التي تمنحها لنا دون أي نوع من أنواع الارتباطات أو
الالتزامات.
- شغل الوقت الحر، إذ علينا الانخراط
في بعض الأنشطة التي تلهينا وتسمح لنا بالاستمتاع بالحياة، كممارسة الرياضة أو
القيام ببعض الأشغال اليدوية، الرسم.. إلخ.
ولتكن استفادتنا أيضا من مرحلة
الحياة هذه بتوثيق ارتباطنا مع أحب الأصدقاء إلى قلوبنا، سيكون ممتعا للغاية إعادة
سيناريو ما قبل الحياة الزوجية وتربية الأولاد، والخروج مع الأصدقاء للغذاء أو العشاء أو الذهاب إلى
السينما أو المسرح أو الملعب.. إلخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق