نولد مولعين بالكون نتصيد الأصوات بعيون مغمضة حتي نتمكن من فتحها فنري آخرين في كل مكان، نفتح عيوننا علي اتساعها باحثين عن السماء فتصطدم بالجدران.
نكتسب عاما او يزيد تتقيد حريتنا حد الانعدام، يمنعوننا من الصراخ والبكاء والتصريح باحاسيس يرونها مخجلة كالجوع أو النوم أو الاخراج الخ، يعلموننا إحدي اللغات لتنتهي علاقتنا بالانسانية وتبدأ علاقتنا بالقومية والأعراق فنحيي العلم او نحفظ النشيد ونتنبه للون بشرتنا وملامحنا –ان كنا من القوميات الي لم تزل تمتلك سمات مميزة- ونحفظ تاريخ الأجداد.. فقط
أبدأ في تعلم الجغرافيا ويخبرونني ان العالم ليس بالاتساع الذي تخيلته يوما حين أتاني أبي بالكره الارضية المصغرة ووضعها في غرفتي، يعلمونني ان علي نزع الدبابيس التي غطيت بها الكاريبي وإسبانيا ومنابع النيل فلن أتمكن من زيارتها بدون جواز سفر وأوراق وتأشيرة دخول والكثير من المال.
يحدثونني عن الحدود الفاصلة ولون العلم والمحاصيل الرئيسية والصناعات المميزة، يقصون علي تاريخ الأعراق والحروب والاستقلال قبل ان أعرف معني الانسانية وسبب تلون الوجوه واختلاف الألسن
يلقنونك التاريخ ومواقيت الحروب ولا يخبرونك ابدا عن أسباب قيامها، تتحول العصور الي أرقام وإحصاءات وأسماء غامضة لا تجيب علي اسئلتك ولا تري لها فائدة، يتحدثون عن النتائج فيتحول البشر الي موتي وجرحي، منتصرين أو مهزومين والأنهار والغابات اللي مساحات بالكيلو متر تملكها دولة دون الأخري.
يعلمونك ان عليك الاعتزاز بدينك مقابل كافة الأديان دون ان حتي ان تعرف ان هناك أديان أخري، يخيفونك من النار ويسهبوا في وصفها بينما الجنة تختبئ خلف مشاهد الحروب والماسي التي عاناها أجدادك للاحتفاظ بالدين –كل الأديان كما تعرفون حافلة بمآسي رواد الجنة الأوائل- تخاف أن تسأل ان كان عليك تحمل العذاب مثلهم لتفوز بالجنة تخاف ان يسأل ان كانت الجنة حقا هناك.
يلقنوننا أسماء بعض الرواد والمحاربين وممثلين السينما والمخلٍّصين ورجال الدين والشعراء والعلماء والرواه والمكتشفين والفلاسفة والنحاه والرؤساء والفاسقين فلا يبقي في عقولنا اسم أحدهم الا واختلط بلقب اخر.
علي تعلم قواعد لغتي حتي يفهمني الاخرون، من هم الاخرون حقا؟ لا من اخرين هناك سوي عائلتي وأصدقاء المدرسة التائهين مثلي أبحث عن الاخرين في خرائط العالم فلا أجد. سوف اقضي نصف حياتي في محاولة التفاهم مع سكان تلكم المساحة الضئيلة من الكرة الأرضية، اما الاخرين فهم مؤجلون حتي النضج.
حسب التقدم العلمي لدولتك ستتمكن من معرفة اشياء عن الاخرين ربما في سن البلوغ أو مابعد، أشياء حقيقية لا نعني ارقام ومحاصيل ومناخ،نتحدث عن الدين والسينما والفلسفة والشعر والطب والأسلحة والأحلام والانكسارات، أقول ستتعلمها علي مسئوليتك وبطريقتك الخاصة فمناهج التعليم لا تقدم الاخرين بصورتهم الانسانية، ودروس الدين تميل الي تقسيم البشر الي صالحين وغير صالحين، أما الكبار فانهم لسبب ما يقولون أقل القليل.
كلما نمت داخلة حاجة انسانية سارع المجتمع الي تهذيبها دون شرح، تحريمها دون تبيين، تسكينها دون حلول، فيعلمونة خفض الصوت وكبت الشكوي وابتلاع الأسئلة. كلما شبت قامته فرضت عليه المزيد من القيود في علاقة طردية شديدة الإتزان بينما علاقة نفسه التواقة الي معرفة الاخرين يقابلها المحيطين-المحاصِرين- ببرود أن تمهل فالعالم يمكنه الانتظار.
والحق فان القائمين علي استمهال الفتي ليسو بالسذج، فالفتي يكبر يوما بعد يوم ويفقد اهتمامه بالعالم المحيط، تتوقف الفراشات عن التحليق والطيور المهاجرة عن الحكايات وأزهار الربيع عن التفتح وسط معادلات الكيمياء الحيوية ودروس القواعد ومقاييس الخرائط. فيتحول الاخر الي فيلم سينما يعرض يوم الإجازة ومنهج إضافي في دروس التاريخ واتساع لا مبرر له في رقعة الخرائط المطلوب حفظها و محاصيل زراعية وخصائص مناخية في دروس الجغرافيا كذلك وقواعد نحوية للغة تَفرض للمرة الأولي يتحدث بها اخرين شاحبي الوجوه: يسكنون بلاد بعيدة في دروس الجغرافيا ،غرباء في مناهج القومية والتاريخ، كفره في مناهج الدين.
نشب عن الطوق لنتعلم ان المال- الاقتصاد -وليس السياسة هو المحرك الكوني الأوحد وان علينا حين تقوم الحروب ان نتحسس جيوبنا قبل ان نحصي عدد الموتي، تبهرنا العدالة وسيادة الفقراء فنعتنق الشيوعية يتهمنا الجميع بالكفر والرغبة في افقار الجميع ويخبرونا ان ماركس ملحد وانجلز يهودي قذر فنتعادل مع الرأسمالية يتهمنا البعض بالجشع وان كيزني وجون لوك وسميث مرفهين فعلي البعض ان يكونوا فقراء ضمانا للجنة، نقرأ عن الاشتراكية فيتهموننا بالاتكالية وانه لم يعد زمنا مناسبا ويمضوا في هدوء، نحلم بالاقتصاد الديني فينظروا لعقارب الساعة في ملل قائلين بان البحث عن اصول المال قبل استثمارة تستغرق قرونا. وحين نفقد اهتمامنا فقط حين نفقده يتحسرون علي اهدار الطاقة وجهل الصغار
عام او اثنين نستبدل تصنيف العالم بذكر وانثي تصنيفة السابق لذوي عدل وظالمين او فقراء واغنياء او علماء وجاهلين او متدينين وكفرة، يستغرقنا العالم الجديد في استكشاف ودراسة سرية لا يصادرها احد فنتجه في فضول للاخر فقط حين ينطق لسان احدنا تعود التقسيمات السابقة للظهور وكقاعدة فان الآخر الذي اخترته للاسف لن يتفق معك في الفئة، فيزداد الاخرين ابتعادا وقد صار الكل اخرين.
نكبر وقد فقد معظمنا الاهتمام بالعالم ونكتفي منه بالرقعة الي نسكنها، تعلمنا الايام ان الجحيم هو الاخرين وسارتر يؤمّن علي الحديث فينحصر الاخرين في أفلام السينما –ويحرمها البعض- وكتب الفلسفة- ويحرمها البعض- والشعر والموسيقي –ويحرمها البعض- والنظريات العلمية- ولا يهتم بها أحد- لنكتشف اننا لا نعلم عن انفسنا ولا عن الاخرين الكثير.
ينفتح العالم ذات يوم حين يقرر المجموع انك صرت واحدا صحيحا تَرفع عنه الوصاية تملك ورقة مطوية تطمئنك ان سنوات استظهار صفحات الكتب لم تضع هباء وان ليس عليك تحمل المزيد من دروس اللغة وخرائط الجغرافيا والشعر القديم ربما كبرت الي حد ان تمتلك منزلا وربما واحدا من الجنس الاخر تشاركة الحياة وطفل ستمارس عليه الوصاية، تفاجأ ان الاخرين في كل مكان في الشوارع يطالبونك باحترام هويتهم، علي الحدود يطالبونك بالسلام، في نشرات الأخبار يطالبونك بحل وانقاذ، في الكتب الي صار شراؤها أسهل يطالبونك بالانسانية، في الموسيقي يطالبونك بالتواصل، في العقائد يطالبونك بالامتزاج
لنكتشف ان علينا –ببساطة- ان نتعلم من جديد ونفتح بعض الأبواب ونطرد بعض العناكب ونلغي حدود الخرائط ونفتح عيوننا علي اتساعها ونعيد اكتشاف الاخرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق