تصور عزيزي القارئ أن تدعى إلى جنازة أحد الموتى و حين يحل موعد تقديم مأدبة الغذاء او العشاء على روح الفقيد يقوم أهله و أقاربه بإخراجه من التابوت ثم يقطعوه و يشاركون الحضور في التهام لحمه و هم يذرفون الدمع بحرقة على ذكراه !! لا تتعجب و لا تضحك فهذه ليست مزحة و لا قصة رعب خيالية بل هي عادة حقيقية مارسها لقرون طويلة أفراد قبيلة الفوري في بابوا غينيا الجديدة و كانت سببا رئيسيا لتفشي مرض غريب و قاتل بينهم ساهم بصورة كبيرة في ان تنبذ هذه القبيلة تدريجيا عادة أكل لحوم البشر.
بابوا غينيا الجديدة (Papua New Guinea ) هي دولة تحتل الشطر الشرقي من جزيرة غينيا الجديدة الواقعة في المحيط الهادي إلى الشمال من قارة استراليا و التي تعتبر ثاني اكبر جزيرة في العالم , و قد تميزت هذه الدولة بمئات القبائل البدائية التي عاشت في أدغال و أحراش غاباتها المطرية الكثيفة بمعزل عن العالم لآلاف السنين , و تميزت كل قبيلة بلغتها و عاداتها الخاصة بها فكانت هناك أكثر من 850 لغة مختلفة في هذه الرقعة الصغيرة من الأرض , و نتيجة لعزلة هذه القبائل عن العالم الخارجي فقد احتفظت بنمط حياتها البدائي و القائم على جمع الثمار البرية و صيد الحيوانات و كانت كل قبيلة تحتفظ بمنطقة نفوذ خاصة بها و غالبا ما كانت الحروب و النزاعات القبلية تحدث للسيطرة على مناطق النفوذ هذه.
عرف البحارة و التجار في جنوب اسيا منطقة بابوا غينيا الجديدة منذ عهود قديمة و كانوا يقصدونها غالبا لصيد طير جميل و فريد من نوعه يدعى طير الجنة (Bird of Paradise ) , لكن هؤلاء البحارة لم يجرؤا على التوغل إلى ابعد من المناطق الساحلية بسبب خوفهم من القبائل الوحشية القاطنة في الغابات حيث تناقل الناس الكثير من القصص المخيفة حول ولع سكان الغابة المتوحشين بأكل لحوم البشر و تعليق الرؤوس البشرية كزينة في البيوت.
و في القرن السادس عشر وصل الأوربيين الى الجزيرة و استعمروا المناطق الساحلية حتى القرن التاسع عشر حيث بدئت بعض الرحلات الاستكشافية و التبشيرية تتوغل داخل الغابات , كانت الرحلة داخل الأدغال خطرة و غالبا ما كان الرجال البيض يتعرضون لهجمات القبائل الوحشية التي لم تتوانى عن قتل و التهام البعض منهم , لكن رغم المخاطر فأن البعثات نجحت في جذب أنظار العالم إلى الحياة في هذه البقعة المنعزلة التي تسابق العلماء في مختلف المجالات إلى دراسة انماط الحياة فيها و تقاليد و عادات القبائل البدائية التي تسكنها و التي اعتبرت نموذجا حيا لما كانت عليه حياة الإنسان في العصور القديمة .
و من أهم مظاهر الحياة البدائية التي جذبت اهتمام العلماء و الباحثين هي ظاهرة أكل لحوم البشر التي مارستها اغلب قبائل غابات بابوا غينيا الجديدة , و قد جذبت قبيلة فوري (Fore ) اهتمام العلماء بشكل خاص , فالقبيلة ظلت معزولة عن العالم في الأدغال حتى عام 1950 و كان أفرادها يمارسون طقسا جنائزيا فريدا يتضمن أكل اللحم البشري , فما ان يلفظ شخص من أفراد القبيلة أنفاسه حتى تجتمع النساء من أقاربه حوله و يقمن بفصل يديه و رجليه و رأسه عن جسده ثم يقمن بشوي اللحم و التهامه و كذلك التهام القلب و الكبد و الأحشاء الداخلية , أما المخ فكان له عندهن مكانة خاصة فهو ألذ جزء في الوجبة فما أن تفارق الروح جسد الميت حتى تقوم النساء بكسر الجمجمة و إخراجه بسرعة ليأكلنه نيا و هو لازال حارا و طازجا , و تقدم النساء عادة أجزاء من الجثة لأطفالهم و أحيانا لرجالهن , طبعا ولائم القبيلة تتضمن أيضا أسرى الحروب من القبائل الأخرى إلا أنها تعتمد بشكل رئيسي على جثث الموتى من أفراد القبيلة نفسها و تكون الوليمة في الغالب مقصورة على النساء و الأطفال , كما إن جثة الميت يجب أن تكون سليمة من الأمراض فهم لا يلتهمون لحم الأشخاص الذين يموتون بسبب المرض و ذلك خوفا من العدوى.
الطريف ان أفراد القبائل البدائية كانوا يتعجبون عندما يعلمون ان رجال البعثات الاستكشافية البيض لا يتناولون لحم البشر , كان التهام اللحم البشري شيئا فطريا بالنسبة لهم و كانوا يردون على النصائح بترك هذه العادة قائلين بأنهم لا يجدون سببا واحدا يمنع أكل لحم الإنسان فهو بالنسبة إليهم مثل اللحوم الأخرى بل هو ألذ اللحوم , طعمه لدى البعض يشبه طعم البطاطا الحلوة و لدى آخرين يشبه طعم شرائح لحم الخنزير كما انه يمتاز على بقية اللحوم في سهولة هضمه و استساغة المعدة له حيث كان رجال القبائل المتوحشين يقولون بأن التهام كميات كبيرة من اللحم الحيواني قد تشعر الإنسان بالتوعك و أحيانا في الرغبة في التقيؤ أما اللحم البشري فيمكنك التهام ما شئت منه حتى تمتلئ معدتك و يتعذر عليك بلع المزيد و لن تشعر بأي سوء.
رغم ولع نساء قبيلة الفوري بالتهام اللحم البشري إلا أن القبيلة اضطرت إلى ترك هذه العادة بسبب تفشي مرض قاتل بين أفرادها أطلقوا عليه تسمية كوريو (kuru) و معناها الارتعاش او الارتجاف لأن المرض يسبب رعشة مستمرة في جسد المريض مع الم في الرأس و العظام و المفاصل و تتطور الحالة بمرور الزمن فيصبح المريض عاجزا عن الحركة و عن البلع و حتى التنفس و تنتهي بالموت خلال سنة تقريبا من ظهور الأعراض الأولى للمرض.
في البداية اعتقد الفوري بأن المرض هو لعنة من الأرواح الشريرة و لا علاقة له بعادة أكل لحوم البشر لذلك استمروا في التهام جثث موتاهم فاستمرت أعداد المرضى في التزايد مما دفع الأطباء و الباحثين الى الاهتمام بدراسة المرض و قد توصلوا الى انه يحدث بسبب اختلال في جينات خاصة تحدث تغييرا في عمل البروتينات في الدماغ فتشوهه و تؤثر على وظائفه بشكل مشابه لما يحدث في مرض جنون البقر و قد أكد الأطباء بأن تناول اللحم البشري يعتبر العامل الرئيسي في تفشي و انتشار المرض و الدليل على ذلك هو ان النساء يشكلن حوالي تسعين في المائة من عدد إجمالي الإصابات و ذلك لأن عادة التهام اللحم البشري لدى قبيلة الفوري تكاد تكون مقصورة على النساء.
ساهم الخوف من المرض , إضافة الى وصول المدنية و الحضارة الى هذه الأصقاع النائية , في ترك عادة أكل اللحم البشري و اختفائها بالتدريج و نتيجة لذلك فقد انخفضت أعداد المصابين بمرض الكوريو بصورة كبيرة باستثناء حالات معدودة ظهرت في التسعينيات و كذلك في عام 2004 و التي اعتبرها البعض دليلا على ان بعض الفوري لازالوا يمارسون عادة اكل لحم البشر سرا لكن لا يوجد دليل ملموس يثبت هذا الادعاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق