الجمعة، 9 ديسمبر 2011

كمال الجنزورى.. لغز التسعينيات السياسى





بغض النظر عن حالة الحياة السياسية فى مصر، ورغم أمراضها التى تبقيها طيلة الوقت حبيسة غرفة العناية المركزة، يبقى كرمها على الناس ممثلا فى إتاحة وضع يسمح للمصريين باستخدامه فى التنفيس عن غضبهم بالسب، أو التماس العذر لقلة حيلتهم، بجانب توفير هوامش للنميمة تتسع كلما ساء الوضع أكثر، أما عن أفضل ما تمنحه الحياة السياسية فى مصر للناس فلن تجد أفضل من الألغاز ،حيث تمر الفترة وراء الفترة ولا ينسى الوسط السياسى أن يلقى للناس فى الشوارع بشخصية تمثل علامة استفهام كبرى تموت دون أن يحصل لها الناس على إجابة.

يمكنك أن تعتبرها فوازير يستخدمها النظام لإلهاء الناس أو تسليتهم لحين
تمرير مشروع معين أو عبور مرحلة ما، ولمنتصف التسعينيات فزورة كبرى لم
تتضح بعد ملامح حلولها رغم مرور أكثر من 14 سنة تقريبا على طرحها
بالأسواق، فزورة بدأت فى يناير 1996 وانتهت حبكتها فى أكتوبر 1999 تحت
عنوان حكومة الدكتور كمال الجنزورى، راحت الحكومة بأفعالها وشخوصها
الثانويين وكالعادة لم يفتح لها أحد دفاتر حساباتها، وبقى كمال الجنزورى
كشخص بالمعركة الدائرة حوله بين فريقين، الأول أغلبه شعبى مناصر له لدرجة
الترحم على أيامه والتمنى بعودتها، والثانى فريق معاد أغلبه حكومى ونخبوى
يتحدث عن فساد وسوء إدارة وحكومة ذهبت بمصر إلى داهية مازلنا نحاول العودة
منها حتى الآن، وسواء تعمد الجنزورى أو لم يتعمد أن يكون حلقة جديدة من
صراع الدولة ونخبتها مع الناس فى الشوارع فإنه يمثل بتلك الحالة لغز
التسعينيات السياسى.

الجنزورى الذى ولد فى سنة 1933 بالمنوفية وتولى رئاسة وزراء مصر لمدة ثلاث سنوات بدأها فى 96 برعاية من الرئيس مبارك قائلا فى خطاب تكليفه للجنزورى: (نحن على أبواب مرحلة جديدة فى مسيرة العمل الوطنى وجولة متقدمة فى الإصلاح الاقتصادى، مرحلة تحقيق نهضة كبرى تستثمر كل طاقات المجتمع ، وتنطلق بها نحو الغايات والآمال الكبرى ومن هنا كان اختيارى للدكتور كمال الجنزورى لخبرته وكفاءته ولكى يعطى دفعة قوية وحيوية للمرحلة المقبلة).

هذا رأى الرئيس مبارك فى الدكتور الجنزورى، وهو الرأى الذى لم يستمر سوى ثلاث سنوات خرج بعدها الجنزورى من الحكومة مستقيلا كما يحب هو أن يقول وكما اعتدنا نحن أن أى استقالة حكومة هى فى الأصل إقالة رئاسية، المهم لم يكن خروج الجنزورى فى 1999 خروجا هادئا، بل جاء مصاحبا لموجة هجوم غير معتادة، تميزت بأنها جاءت من طرف الحكومة وأحيانا على لسان المتحدثين الشرعيين باسم الدولة فى هذا التوقيت، مثل سمير رجب رئيس تحرير الجمهورية السابق الذى قال وقتها: « لم ينفذ الجنزورى ما كان يبحث عنه الرئيس من زيادة لمعدل النمو، وخلق فرص عمل جديدة، وتنشيط السياحة، وزيادة مشاريع لإسكان، بالإضافة إلى أنه تمتع بغرور زائد وحب الذات والشللية وتمتعت حكومته بالضعف الإدارى والانفصالية والجزر المنعزلة». هذا ما قاله سمير رجب ، ووقتها كان إذا تكلم سمير رجب فالدولة هى التى تتكلم.

من هنا ومن هذا التناقض فى استقبال الرجل وتوديعه، تضخم لغز الجنزورى وحكومته، خاصة إذا أضفنا موجة الحب والثقة العالية التى منحها الشعب لكمال الجنزورى بشكل لم يحدث مع رئيس وزراء سابق أو حتى لاحق.

الواقع يقول إن حكومة الجنزورى لم تغرد خارج سرب حكومات الرئيس مبارك المتلاحقة منذ 1981 فقد كانت حكومة سكرتارية نجحت فى تنفيذ بعض المهمات وفشلت فى إنجاز ما وعدت به، ولم تنس أن تترك المزيد من المصائب والأعباء للشعب بعد رحيلها، غير أن بعض الخصوصية تمتعت بها حكومة الدكتور الجنزورى الرجل الذى عمل فى كنف الدولة منذ كان أستاذا بمعهد التخطيط عام 1973وأصبح وزيرا للتخطيط فى الحكومات المتعاقبة منذ 1982 وحتى رئاسته للوزراء بعد ذلك بـ12عاما، خصوصية حكومة الجنزورى جاءت من المشروعات الكبرى التى بدأتها الحكومة وحصلت بها على لقب «حكومة المشروعات العملاقة» بغض النظر عن فشل هذه المشروعات أو جدواها.

حكومة الدكتور الجنزورى ذات الثلاثة أعوام بدأت فى أربعة مشروعات عملاقة دفعة واحدة، بداية من توشكى ومشروع غرب خليج السويس وتوصيل المياه لسيناء «ترعة السلام» انتهاء بمشروع شرق تفريعة بورسعيد، لا تندهش كثيرا إذا لاحظت أن الدولة مازالت وبعد 10 سنوات تتحدث عن المشروعات الأربعة وكأنها حديثة العهد أو أن المعارضة تتحدث عن نفس المشروعات الأربعة وكأنها مصائب كلها فساد ونتائجها فشل تحملت خزينة الدولة محاولات ترميمه.

المشروعات الأربعة والتى يستخدمها البعض لتقييم حكومة الجنزورى سواء بالسلب أو الإيجاب تبدو غير صالحة لهذا الغرض، لأن مدة الثلاث سنوات التى قضاها الجنزورى فى الحكومة قصيرة جدا لإنقاذه من تعليق فشل المشروعات الأربعة فى عنقه، خاصة مع تجاهل الحكومة التالية له -حكومة الدكتور عبيد- للمشروعات الكبرى وكأنها كانت تخص الجنزورى لا الدولة.

غير أن عدم إدراك الدكتور الجنزورى الرجل المشهور بأنصاحب الخطط الخمسية الثلاث، لصعوبة قيام دولة مثل مصر بإقحام خزانتها وإدارتها فى أربعة مشروعات كبرى فى توقيت واحد، يظل خطأ لا يغتفر وهو مايذكره هيكل فى كتابه (عام من الأزمات) قائلا: «جاءت حكومة الجنزورى مكلفة بعملية التنمية الشاملة ولكن استهلكها مشروع توشكى العملاق وهو مشروع احتاج إلى تمويل طائل أرهق الدولة ومواردها، وكانت المشروعات الأخرى فرصة لعمليات النهب وتسرب المال العام».

وللإنصاف لا يصح أن نغفل ما أنجزه الجنزورى فى المشروعات الأربعة حتى ولو كانت أغلب آراء الخبراء تؤكد على عدم جدوى المشروع الأكبر فيهم وهو توشكى الذى رحل الجنزورى من الحكومة والمعدات مازالت تعمل به دون أن يأتى بأى ثمار، وظل كذلك حتى الآن.
أما فيما يخص مشروع غرب خليج السويس فقد أنجزت حكومة الجنزورى فيه بإقامة مصنع للأسمنت وميناء العين السخنة حتى منطقة غابة البوص تحت إدارة شركة يونانية ثم إحدى شركات دبى بمشاركة رجال أعمال مصريين، بالإضافة إلى الاتفاق على مشروع لإقامة مصانع صينية ومنطقة حرة لتصدير منتجاتها ولكنه ظل مجرد اتفاق على ورق فقط حتى الآن، أما فى مشروع إمداد سيناء بالمياه فقد نجحت حكومة الجنزورى فى مد 32 كيلوا مترا من ترعة السلام بعد عبور المياه فى صحارى أسفل قناة السويس بالإضافة إلى مد 38 كيلو مترا من خط السكة الحديد متوقفا بعد القنطرة دون أن يصل إلى رفح كما كان مقررا، أما فى شرق التفريعة فاكتفت حكومة الجنزورى بميناء الحاويات بعد تعاقدها مع شركة هولندية لتنفيذه، وبالمناسبة هذا كل ماحدث به حتى لحظتنا الحالية.

هذا ما أنجزته حكومة الجنزورى وكان كافيا بالنسبة لعامة الناس لكى يضعوا بسببه الجنزورى فى مكانة رئيس الوزراء الذى لن يتكرر، وربما كانت نسبة إسهام المشروعات الكبرى فى رسم تلك الصورة للجنزورى فى أذهان الناس نسبة
قليلة إذا تمت مقارنتها بقرارات إلغاء الدمغة على طلبات الإجازات، وحركة الترقيات من الدرجة الثالثة للثانية، وقدرة الجنزورى غير العادية على الحديث بالأرقام والحرص على عدم تضاربها، كل هذا وصل بدرجة حب الناس
 لجنزورى إلى شبه إجماع على أنه الرجل النظيف النزيه الذى طار من الوزارة لأنه دخل عش الدبابير وحاول محاربة الفساد، هذا ما يقوله الناس عن الجنزورى فى رسائل القراء للصحف المختلفة واستطلاعات رأى المواقع الكبرى والمنتديات.

وأكد على تلك الصورة ما أقره البرلمان فى فبراير 2002 ببراءة الجنزورى وحكومته من تهمة التلاعب فى صفقة بيع شبكتى الهاتف المحمول من الدولة إلى المستثمرين وهى القضية التى راهن الكثير عليها لإثبات فساد الجنزورى، بالإضافة إلى شهادات بعض من رجال الأعمال الذين يتمتعون بقبول فى الشارع المصرى مثل الدكتور أحمد بهجت الذى أكد فى حوار تليفزيونى ذات مرة أن الجنزورى أحدث طفرة فى الاقتصاد المصرى وأنه واحد من العظماء فى مصر وأنه يعمل بجد من الثامنة صباحا وحتى العاشرة مساء.

كل هذه الظروف خلقت نوعا من الحب والثقة لدى شعب »بيتنشق« على مسئول نظيف يأمنه على مستقبله ودولته ويقع فى غرام من يشتبه فيهم النزاهة والإصلاح، كما أن المصرى اعتاد أن ينظر دائما تحت قدميه، ينبهر بمن يهتم بتفاصيله الدقيقة، فيمنحه العلاوة والترقية، ويتكلم أمام التليفزيون بثقة وهذا ما كان يجيده رئيس الوزراء الأسبق، لدرجة أن البعض تحدث عن طموح قوى للرجل الذى كان كلما أغضبه أحد صرخ فيه قائلا: «لا تنس أننى رئيس وزراء مصر» والبسطاء فى مصر يعشقون تلك النغمة وتلك الطريقة منذ زمن عبدالناصر.

عموما موجة الحب الشعبية التى استخدمها البعض كتفسير للإطاحة بالجنزورى على اعتبار أن الدولة كثيرا ما تفعل ذلك مع المسئولين أصحاب الشعبية، لم تفلح فى مواجهة تيار الاتهامات الموجهة لصدر رئيس الوزراء الأسبق من جانب الخبراء ورجال الحكومة السابقين والحاليين، بداية من الدكتور بطرس غالى الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة ورئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان حاليا والذى وصف الجنزورى فى كتابه «بدر البدور» قائلا إنه: «رجل معقد وميال إلى الإمساك بكل نشاطات البلد».

وهو نفس الاتهام الذى لاحق الجنزورى بعد ذلك من قبل الكثير من خبراء السياسة والاقتصاد الذين أكدوا على أن إصرار كمال الجنزورى على تركيز السلطة فى يده لدرجة إشرافه على حوالى 18 هيئة عامة كان سببا مباشرا فى سقوط حكومته إما بسبب تراكم المشكلات وتداخل الاختصاصات أو خوفا من طموح الرجل الذى بدا زائدا عن مجرد رئاسة الوزراء، كما أن حكومته كانت ضحية لمشكلة الدولار وأزمة السيولة التى سيطرت على مصر لمدة 8 أشهر وقتها، وأكد الخبراء على أن سببها كان سوء الإدارة من داخل الحكومة التى دمرها بعض وزرائها حينما تحولوا لمراكز قوى وفساد مثل طلعت حماد وزير شئون مجلس الوزراءالسابق الذى دارت شبهات كثيرة حول فساده ترجمتها بلاغات مختلفة للنائب العام، واستخدم الخبراء لغة الأرقام فى إدانة الجنزورى حينما أشاروا إلى أنه خرج من الوزارة مخلفا وراءه عجزا مزمنا فى الميزان التجارى تجاوز 12 مليار دولار بالإضافة إلى زيادة الدين المحلى وبلوغه 200 مليار جنيه مصرى. ودعك من كل هذا وركز مع تصريح رئيس اتحاد البنوك السابق محمود عبدالعزيز والذى جاء ليكمل منظومة الاتهامات الرسمية للجنزورى حينما أكد عبدالعزيز على قيام رئيس الوزراء الأسبق بسحب 5 مليارات جنيه لسد عجز السيولة لدى حكومته دون إذن رسمى وبشكل مخالف للقانون.

كل هذه الانتقادات بلورها ولمعها صراع الجنزورى مع الصحافة الذى اشتهر بمعاداتها، ولعل أشهر معاركه كانت مع عادل حمودة الذى اتهمه بالتحالف مع رجال الأعمال الفاسدين، وأنه أى الجنزورى كان مركزيا وتسببت له تلك الصفة فى مشاكل كثيرة مع الدولة أطاحت بحكومته.

الهجوم على الجنزورى لم يتوقف عند السنة الأولى أو الثانية التالية لخروجه من المنصب كما يحدث عادة فى مصر، فقد استمر حتى وقت قريب حينما رد يوسف بطرس غالى وزير المالية على سؤال حول طبيعة خلافه مع الجنزورى قائلا: «إنه تاريخ.. سيبوه فى حاله، الضرب فى الميت حرام»، والغريب فى كل ذلك أن كمال الجنزورى اتبع استراتيجية واحدة فى مواجهة الهجوم والمديح، فلا هو يرد ويدافع ولا هو يتفاعل مع الناس ويشاركهم احتفاءهم به، بل اكتفى باتخاذ مهنة جديدة لنفسه منذ قدم استقالته من رئاسة الوزراء فى 5 أكتوبر 1999.. مهنة اسمها الصمت.

ليست هناك تعليقات: