السبت، 25 فبراير 2012

أقسام العقل



 


1 العقل الواعي :



عندما قال الفيلسوف الفرنسي " رينيه ديكارت " : " أنا أفكّر إذاً أنا موجود " ، كان يعني بكلامه عن العقل الواعي . فمن خلال العقل الواعي نجد أنفسنا و نتعرّف على ذاتنا و نشعر بها . 


يستمدّ العقل الواعي معظم معلوماته من البيئة المحيطة ، و يتواصل معها عن طريق الحواس المألوفة ( البصر ، السمع ، اللمس ، الشم ، الذوق ) . 

الإدراك الواعي يعكس لنا البيئة الخارجية ، ثم يقوم جهازنا الفكري بتحليل المعلومات التي جمعها و من ثم يخرج بقرارات مناسبة بناءً على ما أدركناه . و كل فرد منا يقوم بتحليل الأشياء و يتعامل معها وفقاً للمنطق أو النظرة الخاصة التي نشأ عليها .

وضع علماء النفس أمثلة كثيرة في سبيل شرح تكوين العقل و طريقة عمله بشكل بسيط يمكن استيعابه بسهولة . منهم من شبّه العقل بمياه المحيط ، و القسم الواعي منه يمثّل سطح المحيط الذي يتعرّض للبيئة الخارجية .


 لكن هناك أعماق لا متناهية في الأسفل ، مليئة بكميات هائلة من المعلومات ، لكنها غير مدركة من قبل العقل الواعي الذي هو على السطح و يقوم بتوجيه انتباهه إلى الخارج .

وشبهوا العقل بجبل من الجليد الذي يطوف على سطح المحيط ، القسم الظاهر فوق سطح الماء هو العقل الواعي و يعمل هذا القسم على التزوّد بالمعلومات المختلفة من البيئة المحيطة ( فوق الماء ) ، و كذلك من قسمه الخفي أو الباطن ( المغمور تحت الماء ) .


هناك من شبّه العقل الواعي عن طريق وصف عمل التلسكوب ( منظار بعين واحدة ) ، ينظر عقلنا الواعي من خلاله و لا يرى سوى الشيء الذي وجّه انتباهه نحوه ، دون إدراك العالم اللامحدود الذي يحيط بهذا الشيء المستهدف من قبل عين التلسكوب .


 فالوعي في هذه الحالة هو محصور في مساحة محدودة تتناسب مع مساحة عين التلسكوب .

لكن يبدو أن هذا الإدراك المحدود على الأشياء التي نقوم بتوجيه انتباهنا نحوها فقط ، هو لصالحنا .


 فإذا كان عقلنا الواعي مفتوح على مصراعيه في مواجهة ذلك الكم الهائل من المعلومات و اضطرّ بالتالي إلى التعامل معها مرّة واحدة فسوف ينفجر في الحال بسبب الحمولة الزائدة و سنصبح مجانين . 

فنحن لا نستطيع قيادة سيارة مثلاً ، في الوقت الذي نتعرّض فيه للملايين و الملايين من المعلومات اللامتناهية !. هذا طبعاً مستحيل ..

لهذا السبب ، وجب على العقل الواعي أن يكون محدود . قابل للتوجيه نحو أمر واحد فقط حتى نتمكّن من استيعاب هذا الأمر بسهولة و يسر .



2 العقل الباطن :

 

غالباً ما يتم الخلط بين العقل الباطن و العقل اللاواعي ( أو اللاوعي ) ، مع أن الفرق بينهما كبير . يقصد بالعقل الباطن ذلك القسم الموجود تحت عتبة الوعي مباشرة . أو ذلك التفكير الخفي الذي يقع تحت مستوى التفكير الواعي .

إذا عدنا إلى تشبيه العقل بمياه المحيط ، نجد أن العقل الباطن يمثّل تلك الطبقة الرقيقة من المياه الموجودة تحت السطح مباشرة ، بين المياه الدافئة المعرّضة للشمس ، و المياه العميقة الباردة التي لا يطالها نور الشمس أبداً .


عمل هذا القسم من العقل هو تسجيل الانطباعات التي يدركها العقل الواعي ، و تخزينها في مكانها المناسب من أجل استخراجها في الوقت المناسب ، كل ذلك يحصل دون علم أو إدراك من القسم الواعي .


 فالعقل الباطن النشيط يستطيع تحضير القرارات المناسبة التي وجب على الفرد اتخاذها دون العودة إلى التفكير طويلاً . و كذلك التصرفات المناسبة و حتى الإجابات المناسبة . تبدو هذه الظاهرة واضحة عند الأشخاص العفويين أو البديهيين .

و هذا أيضاً يفسّر قدرة بعض الأشخاص على إيجاد أجوبة سريعة لأسئلة تتطلب الإجابة عليها فترة من التفكير .


 أنا لم أقصد أجوبة غيبية ، بل تلك المستمدّة من المعلومات التي تم تخزينها مسبقاً في الذاكرة ، أي تم دراستها و استيعابها من قبل . أما المعلومات الغيبية ، فالمسئول عنها هو قسم آخر سنأتي إليه لاحقاً .

يعمل العقل الباطن وظيفة الرقيب ، أي مراقبة جميع تصرفاتنا و سلوكنا و التدخّل أثناء الخروج عن حدود هذه التصرفات . ( العقل الباطن لا يفرّق بين الصح و الخطأ ، بل هو يعمل على أساس المعلومات التي خزّنت فيه منذ الطفولة ، أثناء الخضوع لنظام التربية التي تختلف من شخص لآخر .


 فهو يعتمد على البرنامج الذي زوّد به منذ الطفولة ، التصرفات الصحيحة بالنسبة له هي تلك التي نشأ عليها الفرد بأنه صحيحة ) .

العقل الباطن هو مسئول أيضاً عن الأفعال الأوتوماتيكية . أي إذا كنت تقود سيارة مثلاً ، و تتوجه نحو منزل أحد الأصدقاء ، و في طريقك إلى هناك ، راح تفكيرك ينشغل بأمور أخرى جعلك لم تعد تنتبه لقيادة السيارة .


 لكنك بعد أن تستيقض من حالة الشرود التي كنت فيها ، تجد نفسك قد أصبحت أمام منزل صديقك . من الذي قاد السيارة خلال غيابك التام عن عملية القيادة ؟. الجواب هو العقل الباطن .

تختلف طريقة عمل العقل الواعي عن العقل الباطن ، فالعقل الواعي يعتمد على المنطق و التفكير الموضوعي الذي نشأ عليه الفرد ضمن بيئته الاجتماعية . و الإدراك المحصور ضمن حدود الحواس الخمس .


أما العقل الباطن ، فتفكيره غير موضوعي و لا يعتمد فقط على المعلومات القادمة من العقل الواعي ، بل يعتمد على معلومات خفية لا يمكن للعقل الواعي إدراكها ، و يتجاوب لها حسب الحالة .


3 العقل اللاوعي :

 

يعتبر هذا القسم الخفي من أكبر أقسام العقل . إذا عدنا إلى تشبيه مياه المحيط ، نجد أن العقل الواعي موجود على السطح و العقل الباطن هو تلك الطبقة الرقيقة بين المياه السطحية الدافئة و المياه العميقة الباردة .

 أما اللاوعي ، فيمثّل القسم الأكبر من المياه ، و بالتالي ، يحتوي على مخزون هائل من المعلومات . و إذا استخدمنا تشبيه الجبل الجليدي ، نجد أن اللاوعي هو القسم الأكبر المغمور تماماً تحت سطح الماء .


يحتوي هذا القسم الخفي على جميع المعلومات التي تخص حياتنا الشخصية ، منذ اليوم الأوّل من ولادتنا حتى اليوم الأخير  وفيه تخزّن ذاكرتنا المنسية ( معلومات قد ننساها تماماً ) .
 
 ويحتوي أيضاً على معلومات تم إدراكها بواسطة الواعي و كذلك تلك التي لم ينتبه لها أبداً ( معلومات أدركناها دون شعور أو وعي منا ، لكن تم تخزينها في ذلك القسم الخفي اللامحدود ) .

يقوم هذا القسم بتخزين كل فكرة خطرت في بالنا ، كل انطباع عاطفي شعرنا به ، كل حلم ظهر في نومنا ، كل صورة شاهدناها ، كل كلمة تلفظنا بها ، كل لمسة لمسناها ... و يحتفظ بكل حادثة حصلت في حياتنا مهما كانت صغيرة . 


جميع علومنا و حكمتنا التي اكتسبناها من هذه الدنيا ، مخزونة فيه كما المكتبة التي تحتوي على كتب و مراجع . هذا القسم الخفي من العقل ، و الذي لمسنا وجوده في مناسبات كثيرة من خلال تجارب كثيرة أشارت إليه بوضوح ، هو ما يحاول البعض تجاهله و إنكار وجوده ، و إلحاقه بمفهوم العقل الباطن .
4 اللاوعي الجماعي :


هذا القسم الذي يشار إليه بالعقل الكوني أو الوعي الكوني أو غيره من تسميات أخرى . و الذي تضاربت حوله الآراء و النظريات و التحليلات . لكنهم اجتمعوا على حقيقة واضحة وحّدت بين جميع تلك المذاهب الفكرية المختلفة . حقيقة تقول أن هذه الكتلة العملاقة من المعلومات المختلفة ، و التي تحتوي على أفكار و تجارب كل من عاش على هذه الأرض ، و تعتبر كالمكتبة العامة ، لكنها مكتبة كونية يرجع إليها كل من في الوجود . هذا الكيان لا يمكن إدراكه أو الشعور به مباشرة ، لأننا نتمتّع بحالة وعي تمنعنا عن ذلك .






ذكرنا سابقاً بعض المفكرين و الفلاسفة الذين تناولوا هذا الكيان العظيم في دراساتهم المختلفة . لكن رجال العلم يفضّلون الاعتماد على نظرية عالم النفس "كارل غوستاف جونغ" الذي وضع نظريته المشهورة التي تناولت سيكولوجية الإنسان و علاقتها باللاوعي الجماعي . و قد عرّف هذا الكيان أيضاً بالوعي الخارق .


تم التوصّل إلى هذا المفهوم في أواخر القرن التاسع عشر ، حيث كان هذا العالم النمساوي يرافق أستاذه الشهير " سيغموند فرويد " أثناء جولة فحصية على إحدى المستشفيات النفسية . و قد توقّف مع أحد المرضى للحديث معهم ، و كان هذا المريض فقيراً و جاهلاً ( غير متعلّم ) . كان هذا المريض يقف بالقرب من النافذة ، فأشار إلى خارجها و قال :



" أنظر ، الشمس تهزّ بذيلها ... إنها تصنع الرياح " !.


بعد هذه المناسبة بفترة ، كان كارل جونغ يراجع كتاب ألماني قديم يعود إلى أكثر من ألفي عام ، حصل عليه من إحدى المكتبات العامة . و ذهل عندما قرأ فيه عن طقوس إحدى الاحتفالات الدينية القديمة ، حيث يمكن للمشارك فيها ، بعد تأدية الشعائر المناسبة ، أن يرى " ذيل الشمس و هو يهتزّ " ! و من ثم يأتي الوحي المقدّس عليه ليقول : " ذيل الشمس هو الذي يصنع الرياح " !.


تذكّر جونغ أقوال ذلك المريض في المستشفى ! و فتحت هذه الحادثة البسيطة مجال واسع من البحث ، الذي تناول فيما بعد ما يسمى ب " مصدر الرموز الجماعية في عقل الإنسان ".


و بعد رحلة طويلة من البحث و دراسة الحضارات الإنسانية التي نشأت عبر العصور ، كالحضارة المصرية القديمة ، و حضارة الأزتك ، و الهند ، و الهنود الحمر في أمريكا الشمالية ، و أوروبا القديمة ، لاحظ وجود تشابه كبير في طقوسهم الدينية ، و أساطيرهم ، و حكاياتهم الخرافية التي زخرت بها ثقافاتهم . فاستنتج أنه وجب وجود مصدر واحد نهلت منه تلك الحضارات المختلفة ثقافاتها المتشابهة إلى حد بعيد . و قد لامس هذا الاستنتاج مفهوم جديد يشير إلى وجود عقل كوني ، أو لاوعي جماعي ، تتصل به جميع العقول الفردية . كيان عقلي عظيم يوصل بين جميع سكان العالم ، الأموات و الأحياء ..


يمكن تشبيه هذا الكيان بالهواء الذي نتنفسه . أنأ أنهل من هذا الهواء الذي يحيط بي ، و الإنسان الذي هو موجود على الجهة الأخرى من الأرض ينهل من الهواء المحيط به ، لكن الواقع الذي لا ننتبه به هو أن كلانا ننهل من نفس الكتلة الهوائية العملاقة المحيطة بالأرض ، و هذا الكيان الهوائي العملاق يوصل بيننا بطريقة أو بأخرى ، لأنه في متناول الجميع .


هكذا يعمل حقل الوعي الكوني . هذا الوعي الجماعي الذي يخزّن خبرات الأفراد الشخصية من جهة ، و يلهمها لأفراد آخرين من جهة أخرى ، و ينقل خبرات الآخرين إليه . يحصل ذلك كله على مستوى اللاوعي ، دون أي شعور من العقل الواعي .


هذه الحقيقة الجديدة أدت إلى نشوء نظريات عصرية تميل نحو هذا التوجه الجديد . أهم هذه النظريات هي " نظرية الحقل الموفوجيني " التي وضعها عالم البايولوجيا البريطاني ، روبرت شيلدريك ، من جامعة كامبريدج .


الحقل المورفوجيني
:

يصرّ الكثيرون على أن "الدماغ"، إذا أصيب بعطل ما (كبير أو صغير) ، فهذا قد يمنع صاحبه من التمتع بالوعي ، أو يمنعه من التواصل فكرياً مع المحيط بطريقة أو بأخرى ، كفقدان الذاكرة مثلاً ، لأن الدماغ (كما يقولون) هو مصنع الأفكار الأساسي ، و هو مصدر العقل ، و مخزن الذاكرة ، ... إلى آخره .


لكن في الثمانينات من القرن الماضي ، خرج عالم بيولوجي من جامعة "كامبرج" يدعى "روبرت شيلدريك" ،معلناً عن نظريته "الحقل المورفوجيني" Morphogenic Field . و قال أن الدماغ ليس سوى قناة تواصل مع العقل و ليس مكان وجود العقل .

 و قد أعطى مثال على ذلك بجهاز التلفزيون ، الذي يستقبل الإرسالات المختلفة ، لكنه ليس مصدر تلك الارسالات .فإذا أصيب التلفزيون بعطل ما و لم نستطيع الحصول على صورة صافية أو حتى أي صورة على الإطلاق ، هذا لا يعني أن الإرسال لم يعد موجوداً في الأثير .

و قد تقدم بنظريته الجديدة التي أقامت الدنيا و لم تقعدها ، خاصة في الأوساط العلمية التقليدية التي شّنت عليه هجوماً شرساً . ( كما هي العادة مع كل فكرة جديدة ) لكن هذا لم يمنع بعض العلماء من الاقتناع بهذه الفكرة التي ، كما قالوا ، قامت بملء فجوات كثيرة في دراسة بعض الظواهر التي لم يجد لها العلم المنهجي تفسيراً .


جاء شيلدريك بحزورتين مختلفتين ، من النوع الذي يظهر في الجرائد و المجلات لتسلية القراء . تتمحور كل حزورة حول ( البحث عن الصورة الضائعة ) .


قام بإظهر إحدى هاتين الحزورتين على شاشة التلفاز ، أمام الملايين من المشاهدين . 


( في محطة البي . بي . سي التلفزيونية ) و قام بحلّها أمام هذا الكم الهائل من المشاهدين . أما الحزورة الثانية ، فقد جال بها فريق من الباحثين في الشوارع و المناطق العامة و قاموا بحلّها أمام بضعة مئات من الناس .

إذاً ، أصبح لدينا الآن حزورتين ، إحداها قد تعرّض للملايين من العقول و تعرّفوا على طريقة حلها ، و الأخرى تعرّضت للمئات من العقول و تعرفوا على طريقة حلها .


قام بعدها فريق من الباحثين بالسفر إلى مناطق نائية من العالم ، حيث لم يكن التلفزيون مالوفاً بينهم .


 وبعد عرض هاتين الحزورتين على السكان المحليين كانت النتيجة أنهم تمكنوا من حلّ الحزورة التي عرضت على شاشة التلفزيون بسهولة تفوق تلك التي عرضت للمئات فقط .

 وهذا أثبت أنه كلما ازداد عدد الناس المشتركين في فكرة معيّنة ، كلما كان لهذه الفكرة انطباع أعمق في العقل الجماعي ، مما يؤدي إلى ازدياد قوة تأثيرها على جميع الشعوب بشكل لاواعي !.

يسرد لنا العالم "ليال واتسون" ، في كتابه " تيار الحياة" عام 1970م عن حادثة وقعت على جزيرة يابانية ، ( سمى هذه القصة بمبدأ "عدوى المئة قرد" Hundred Monkey syndrome ) ، حيث قام الباحثون بإطعام القرود حبات البطاطا كغذاء يومي ، و قد أحبّ القرود هذا الغداء الجديد الذي لا يعرفونه من قبل ، لكنهم لم يحبوا رمال الشاطئ التي كانت تتعلّق بالحبّات.


 فقام أحد القرود بغسل حبة البطاطا في مياه البحر قبل أن يتناولها ، و اكتشف أن طعمها أصبح أفضل بسبب زيادة ملوحتها نتيجة تغطيسها في المياه المالحة ، فراح القرد منذ ذلك الحين يأكل البطاطا بعد تغطيسها في ماء البحر .

 لكن بعد فترة من الزمن ، و على الجانب الآخر من الجزيرة ، راحت القرود الأخرى تستخدم نفس الطريقة في الحصول على البطاطا المالحة ، مع العلم أنهم لم يتواصلوا مع القرد الأول الذي هو صاحب الفكرة . 

و بعد فترة من الزمن ، و في جزيرة أخرى يعيش فيها قرود أخرى ، نشأت هذه العادة (أكل البطاطا المالحة) بين القرود ، و بالرغم من أنهم يعيشون في الغابة بعيداً عن الشاطئ ، راحوا يسافرون من الغابة إلى الشاطئ لكي يغطسون حبات البطاطا من أجل الحصول على الملوحة .

كيف انتشرت هذه الفكرة بين القرود بالرغم من تلك الحواجز الطبيعية التي يستحيل تجاوزها ؟


هنا تدخل مهمة "الحقل المورفوجيني" الذي تكلّم عنه "شيلدريك" . 

 
يقول الدكتور "بول كابل"، مدير أحد مؤسسات البحث في "وعي الحيوان" ، أنه لازال هناك الكثير من الغموض في سلوكيات الحيوانات التي ليس لها تفسير من قبل النظريات السابقة ، كنظرية التطور مثلاً .
 فتعتمد نظرية التطوّر على فكرة أن التغيّرات و التطوّرات التي تحصل في الكائنات هي نتيجة لتغيرات جينية عشوائية في عملية "تطوّر الكائنات".

(فيختلف مفهوم "تقدم الكائنات" عن مفهوم "تطوّر الكائنات") 


و قد دعم شيلدريك فرضيته بالتجارب التي أقامها عالم النفس الشهير "ويليام مكدوغل" في جامعة "هارفارد" ، في العشرينات من القرن الماضي .


وضع مكدوغل عدداً من الفئران في خزان مليء بالماء له منفذين للهروب ، و جعل إحدى هذه المنافذ تطلق شرارة كهربائية خفيفة لكلّ فأر يمرّ منها (أي ممر مكهرب) .


أول جيل من هذه الفئران تلقى أكثر من 160 صدمة كهربائية (لكل فأر) قبل أن يتعلم تفادي ذلك الممرّ المكهرب .
 أما الجيل الثاني من الفئران ، فقد تفادى الممرّ المكهرب بدرجة أقلّ من الجيل السابق ، و الجيل الثالث من الفئران ، كان معدّل تفاديه أقل بكثير ، و هكذا ...

وبعد ثلاثين جيلاً متتالياً ، أصبحت الفئران تواجه فقط ما معدّله 20 صدمة لكل فأرة .


أثبت مكدوغل أن التجربة التي يخوضها الكائن الحي هي أيضاً عنصر متوارث إلى جانب التوارث البيولوجي (كالشكل و اللون و السلوك و غيرها). 
لكن نتائج مكدوغل واجهت نفس ما واجهته نظرية شيلدريك ، الهجوم الشرس من قبل المجتمع العلمي . 
فقد رفضوا اكتشافات مكدوغل الجديدة بشكل مطلق ، و ادّعوا بأنه قام بشكل مقصود بانتقاء جيل من الفئران الأذكياء و استخدمهم في هذه التجربة . فقرّر مكدوغل إعادة إجراء هذه التجربة ، لكن هذه المرّة استخدم الفئران الأكثر غباء .
 وكانت المفاجئة أن بعد 22 جيل متوالي ، كانت الفئران تتعلّم بمعدّل عشرة مرّات أكثر من أسلافها الغبية .

ربما هذا ما يفسّر حقيقة أن أغلبية الأطفال الذين في سن الثالثة و الرابعة من العمر هم أكثر براعة من الكبار في استخدام الكمبيوتر . 
يقول أحدهم تعليقاً على هذه الظاهرة : " هناك سببين لهذه الحقيقة ، إما تأثير الحقل المورفوجيني أو أنهم أقاموا دورات تدريبية في بطون أمهاتهم ".

أثارت تجارب مكدوغل الفضول عند الكثيرين الذين تحمسوا لهذه الفكرة ، و راحوا يجرونها في مختبراتهم الخاصة , كما هو الحال مع البروفيسور" و.ي أغار" ، من ملبورن أدنبرغ ، الذي صمّم خزانات مياه مشابهة لخزانات مكدوغل ، و راح يعيد التجارب ذاتها .
 لكن المفاجئة الكبرى كانت أن الجيل الأول من الفئران تعلّم تفادي الصدمة الكهربائية بشكل أسرع من الجيل الأول من فئران مكدوغل . 
حتى أن بعض هذه الفئران لم تخطئ في اختيار الممرّ المناسب ولو مرّة واحدة !.

أقام البروفيسور "أغار" تجاربه على مدى خمسة وعشرين عاماً ، و وجد أن الفئران التي لم تأتي من أجيال مدرّبة على تجربة الخزان كانت تتعلّم تفادي الصدمة الكهربائية بنفس سرعة الفئران التي جاءت من أجيال مدرّبة . و أكّدت نتائج تجارب الدكتور "أغار" ما توصل إليه "مكدوغل" من قبله .


أقيمت تجارب كثيرة حول هذا الموضوع و جميعها كشفت عن هذه الظاهرة بوضوح .


وضعوا مثلاً ، بعض الفئران في متاهة ، و عملت هذه الفئران جاهدة في سبيل التعرّف على السبيل الصحيح للخروج منها . لكن الأجيال اللاحقة قامت بإنجاز هذا العمل بسهولة . أما الأجيال التي تلت ذلك ، فلم تواجه صعوبة أبداً ! و هكذا ... ، 
حتى أن الفئران التي ليس لها أي صلة جينية أو وراثية بالفئران السابقة ، وجدت سهولة كبيرة في الخروج من المتاهة ! رغم أنها تعيش في بلاد بعيدة جداً عن الفئران الأوائل .

إحدى التجارب تمثلت بتعليم أغنية يابانية لمجموعة أشخاص يتحدثون بالإنكليزية و لا يفقهون عن اللغة اليابانية شيئاً . أعطوا هؤلاء الأشخاص أغنيتين يابانيتين مختلفتين و طلبوا منهم أن يحفظوهما .
 الأغنية الاولى كانت أغنية يابانية شعبية ، معروفة عند كل اليابانيين . أما الأغنية الثانية فكانت عبارة عن اغنية من تأليف أحد القائمين على هذه التجربة .
 و كانت النتيجة أن الأشخاص وجدوا صعوبة في حفظ الأغنية الثانية ، أما الأغنية الأولى ( المشهورة ) ، فقد حفظوها بسهولة و سرعة كبيرة .


ولكي نتقرّب أكثر لفهم هذه الفكرة ، سوف نوصف طريقة عمل هذا الحقل ألمعلوماتي على سكان جزيرتين تفصل بينها مساحات واسعة تبلغ ألاف الكيلومترات حيث لا يمكن التواصل في ما بينها بأي وسيلة من الوسائل.
 وسكان كل جزيرة يجهلون أصلاً بوجود جزيرة أخرى غير جزيرتهم . لكن عندما يبتكر سكان الجزيرة الأولى أفكار جديدة و تصبح مألوفة في حياتهم اليومية . 
 نلاحظ بعد فترة من الزمن أن هذه الأفكار قد ظهرت عند سكان الجزيرة الثانية و أصبحت مألوفة أيضاً . و بعد أن يعمل سكان الجزيرة الثانية على التعامل مع تلك الأفكار و من ثم تطويرها و إجراء بعض التعديلات فيها ، نجد أن هذه التعديلات قد ظهرت تلقائياً عند سكان الجزيرة الأولى .

الأفكار و التجارب و الانطباعات المختلفة التي تنبثق من الكائن الحي لا تفنى و لا تزول ، بل تأخذ لنفسها حيزاً مكانياً في الحقل المعلوماتي الكوني و تتراكم و تزداد كلما زادت الخبرات و التجارب الجديدة التي تخص تلك الأفكار .


هذه العملية ليس لها علاقة بالتخاطر أو الانتقال المباشر للأفكار . لأنه يمكن للفكرة الجديدة التي تألفها مجموعة بشرية معيّنة أن تبقى سنوات عديدة قبل ظهورها بين مجموعة بشرية أخرى .
 لقد اكتشف الباحثون مظاهر كثيرة متشابهة تجلت بين القبائل و الحضارات المنتشرة حول العالم ، جميعها تشير إلى وجود هذه الظاهرة .
 فوجدوا مثلاً أن القبائل التي تعيش على ضفاف الأمازون في أمريكا الجنوبية تتشابه في طريقة حياتها مع القبائل الموجودة في أفريقيا و أسيا الجنوبية الشرقية التي تعيش على ضفاف الأنهار .
 فجميع هؤلاء يستخدمون الأدوات ذاتها و كذلك عاداتهم و تقاليدهم التي لا تختلف كثيراً . أما الحضارات القديمة التي انتشرت حول العالم ، فقد تشابهت جميعاً في طريقة البناء و تشييد الهياكل و كذلك الأساطير و الآلهة تكاد تكون متشابهة . رغم تلك الحواجز الطبيعية و المسافات الهائلة الفاصلة فيما بينها .

بالرغم من ذلك كله ، تنكّر المجتمع العلمي لهذه النتائج و رفضوا حتى النظر فيها .لكن هذا لا يعني أن المجتمع العلمي هو على صواب ، حيث أنه لا يمثل سوى منهج علمي محدّد ، و للأسف الشديد ، هو المنهج الذي يحكم العقول في هذا العصر ، إنه المنطق السائد .
 هذه التجارب و غيرها من الدراسات الكثيرة التي سحقها المجتمع العلمي تحت الأقدام ، إن دلّت على شيء ، إنما تدل على أننا أكثر بكثير من ما نحن عليه فكرياً و بيولوجياً .

إننا في الواقع جزء صغير من حقل غير مرئي ، يتوضّح و يثبت نفسه كلّ يوم


يقول "شيلدريك" : إن المفاهيم التي أثبتت أصوليتها في عملية فهمنا للوجود ، بدأت تميل إلى حقيقة ثابتة تقول :

 
" بدأ الكون يبدو كأنه عقل عظيم بدلاً من حركة ميكانيكية عظيمة ".
 

هناك 4 تعليقات:

غير معرف يقول...

مساء الورد ايام وليالي

تفصيل جميل ومقال مهم عن اقسام

العقل ...

تحياتي وإحترامي

die-nachrichten يقول...

طرح قيم ... بوركتم :)

رحيق الورد يقول...

مساء الخير...
شكرا لك على المعلومات المهمة
تحياتى لك
ياسمين

- محمد بوعلام عصامي ____ يقول...

موضوع مفيد تم علاجه بطريقة علمية دقيقة لا تخلو من جمالية في الأسلوب.
تحياتي أستاذنا الكريم