الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

حزيـــن





إيه؟
زعلان، زعلان على عمري
نعم؟
آه، حاجة مبتذلة جداً، زعلان على عمري. حاسس إنه فات ومافيش حاجة
طيب ما هو أصلاً مافيش حاجة، هو إحنا كنا فاكرين مثلاً في يوم من الأيام إنه فيه حاجة؟
لأ، بس ساعتها كنت عارف إنه وقتها مافيش حاجة، مش طول العمر مافيش حاجة
حاسس إني عشت أسوأ اختيارات، ده مش ندم، أنا مش ندمان على إني اخترتها، أنا ما باندمش أبداً، عمري ما بصيت ورا وقلت يا ريت حاجة كانت حصلت بشكل مختلف. إنما برضو إللي عشته كان الأسوأ. مش ندمان، لكن من حقي أحزن على عمري.

أسخف شيء في الموضوع إنه لو الأيام رجعت تاني هأختار نفس الخيارات وأعمل نفس الحاجات. ده إيمان بإللي أنا عملته ولا تسليم بأنه مكنش فيه حاجة تانية ينفع تتعمل؟

يمكن أكون سعيد وأنا مش عارف؟ إزاي تكون سعيد ومش عارف؟



من أضاف تلك السنين والساعات غير المحسوبة للعمر وأسماها لي فأسعد أو أشقى؟ ماذا جعل من المحتم أن أبعد الشاشة عن عيني نصف متر كي أرى؟ ماذا حدث لمعصمي من سنوات الكتابة؟ أين كل الأحلام التي حلمتها بينما أنام؟ فقالوا لي إنها تنسى كلها ما عدا ما نستيقظ بينما نحلم به. لكي تمسك بالحلم إذن عليك أن تتنازل عنه وتصحو.


منذ صغري وأنا أتألم حين أستيقظ صباحاً، كأن عذاباً خفياً كان يلاحقني في نومي. لا أبدأ في التركيز والحياة قبل ساعات من استيقاظي. يفوتني الباص. أنتظره دون أن أعرف أنه قد مر فعلاً.

أحلم بعالم لا نضطر فيه للاستيقاظ إلا حين نستيقظ، هكذا. لا منبهات ولا مكبرات صوت ولا نفير باصات. نحلم ونسعد بالأحلام دون أن نعرف أننا حلمناها ولا نتذكر شيئاً منها ونستيقظ سعداء دون أن نعرف السبب.

يقولون إن أطول حلم يستمر ثوان معدودة ولو بدا لنا ساعات. الأحلام تعرف أننا نلاحقها فتهرول مسرعة ولو أنها توهمنا بغير ذلك. تضمن أن تبقى الاحتمالات دائماً في صالحها، حتى لو أيقظنا في غير موعد منبه  أو نفير باص.

تتكرر الأحلام. تلك الأحلام التي تعيش ثوان قليلة تتكرر هي نفسها مرة بعد مرة، تضطر للتكرار أو نضطر نحن للاستيقاظ بسبب فزع الحلم المتكرر. أسناننا تتكسر أو نمشي عرايا في الشارع أو نجري بينما لا تتحرك رجلينا أو نذهب للامتحان غير مستعدين. يتأكد الحلم من تكرار نفسه حتى يعوض احتمالاته ويضمن أن نمسك به في لحظة ما بين النوم واليقظة أو نستيقظ متألمين دون أن نعرف السبب.

حملت بيدي مولوداً لم يبك بعد ورأيت ميتاً مات قبل ساعة. المولود مفزوع ومزرق والميت مسالم ومسترخي. وما بينهما لحظة بين النوم واليقظة.

أقرأ فقرة في مجلة تافهة بينما كنت في الخامسة فينبهر أحد الحاضرين ويعطيني ساعة معصم. أنبهر بفكرة الساعة ودقات الثواني ولا أخلعها أبداً. أعرف أن بإمكاني الاستحمام بها فلا أخلعها لأي سبب. أقضي الوقت في المدرسة أنظر للدقائق وهي تمر حتى يدق الجرس. أرتديها حتى لاتضيع. اقترضها مني واحد من فتيان الجيران  ثم خرج ولم يعد أبداً. لم يعرف أحداً إن كان ذهب ليعيش مع حبيب أم ذهب لأنها لم يعد يطيق العيش أم ماذا.

عوضوني بساعة أخرى عن ساعتي التي هربت من الغبن، لا تختلف عنها إلا بخط أزرق رفيع يحيط أرقامها الكبيرة. كلما نظرت إليها لا أرى سوى الخط الأزرق الذي يفرقها عن ساعتي الأصلية التي مُنِحتها لما قرأت وأنا في الرابعة. ترى أين ساعتي الآن؟

لا أذكر على الإطلاق أي شيء عن الساعة البديلة ذات الخط الأزرق.

لا أطيق الآن أن أرتدي أي شيء بشكل مستمر. ما أن أدخل وراء أي باب حتى أخلع كل شيء عني. على معصمي تحسس مزمن يسوء كلما ارتديت ساعة.

ليس لدي إحساس قوي بالزمن. يكرر علي أحد الأصدقاء ذلك. أستطيع أن أقدر الوقت بالنظر إلى السماء ولكنني لا أعرف كم مر من الوقت أبداً.

ثلاثة أطفال يدخلون بوابة سحرية، لا توجد أية محاذير، بنتين وولد، يكتشفان أن الولد يستطيع بحركة ذكية أن يدخل الماء النازل من الدوش إلى قضيبه ثم يخرجه وتكتشفان استحالة قيامهما بالحيلة نفسها. 

ينتهي الاستحمام بعد دقائق ولا يعودون يفكرون في المسألة. الفتاتان تعلمتا منذ الصغر كيفية التبول واقفتين بسبب هوس أميهما بالجراثيم الموجودة على المراحيض في الأماكن العامة لو جلستا عليها.

تظن إحداهن إن لديها شيئاً ما يشبه القضيب ولكنه لا يقوم بنفس المهام، فلا الماء يدخله من الدش ولا البول يخرج منه. يختفي هذا الشيء بمرور السنوات وتعرف بالصدفة أنها ولدت بزائدة جلدية معبئة بالدهن تختفي تلقائياً مع التطور الهرموني.

تحاول أن تتذكر ذلك الشيء الذي كان يجعلها بنتاً وولداً كيف كان شكله فيبدو ذكرى غامضة بين الحلم واليقظة. تخبرها أمها بعدها أن طبيب الأطفال عند ولادتها شخصها من اللحظة الأولى وطلب منهم ألا يعبأوا إطلاقاً بتلك الزائدة التي ستختفي مع البلوغ ولا يذكروها حتى أمام الفتاة.

تمتن لذلك الطبيب الذي لم تره أبداً لأنه لم يرتبك ولم يخطئ. عرفت ذلك الطبيب الذي امتنت له قبل أن تبدأ الذاكرة في التكون. هو موجود إذن إلى الأبد في دائرة الحلم.

مر عمر طويل وسنوات كثيرة قبل أن أتفهم الإدمان. كنت مغرقة في قصص أصدقاء السوء وأفلام المراهقين المدمنين. فهمت بعد سنوات كثيرة معنى أن تبتغي طوال الوقت تلك اللحظة القصيرة عصية الاقتناص التي تدور بين الحلم واليقظة.

حين تسيء لنا الأحلام وتسيء لنا اليقظة، لا يبقى إلا أن نسعى خلف اللحظة البينية وتصبح تلك هي الطريقة الوحيدة للعيش. ربما يكون هذا هو سر فشل علاجات الإدمان المتكرر، فأنت لا تمنح بديلاً لتلك اللحظة، لا حلم ولا يقظة.

لا أظن إننا نحزن على أعمارنا إلا لو كنا نظن إنه كان ولا بد أن نكون في مكان آخر لسنا فيه الآن. ما أن نصبح في المكان الصحيح سنكف عن الحزن على أعمارنا. ما أن يصبح لليقظة معنى سنكف عن التشبث بتلك اللحظة التائهة بين عالمي اليقظة والنوم.

وحتى الآن، أنا حزين على عمري


ليست هناك تعليقات: