الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

تفريــغ ذات




حين تمسك قلمك لتفرغ جوفك حبراً لا ينم هذا بالضرورة عن شجاعة بل ربما هى وسيلة مقنّعة للهروب  و حين تقرر أن تتخذ كلماتك ثوب الفصحى لن يشف ذلك عن بلاغة قول بل ربما هى محاولة أخيرة للتستر و تعتيم الرؤية قدر المستطاع لتقنع ذاتك الخبيثة أن مساحة الخصوصية مازالت محفوظة . تحاول التظاهر بأنك تبحث عما تكتب عنه رغم يقينك التام بأنك لم تمسك بالقلم سوى لسرد مشاعر بعينها . لا تعلم إن كان همك الأول إدراكها . التشاور مع ذاتك حولها . أم مجرد إخراجها فى محاولة أخيرة منك لإيقاف ذلك الصخب بين حطام دواخلك.

فجأة تتذكر حديثاً ما قلته لأحدهم اليوم .. أنك لا ترى عيباً فى مسألة عدم إدراكك هدفك الخارجى نحو المجتمع حتى الآن و أنك تؤمن أن ذلك يأتى تدريجياً مع الوقت و ان الوعى الكامل ليس بالضرورة ممكن الحدوث . بينما ترى أن إدراكك هدفك نحو ذاتك أسمى و أكثر خطورة . تترك القلم رافضاً أن تمارس عليك أفكارك ضغطاً آخر يضاف لكل هذا الكم من الضباب . تفتح كتاباً - غير هذا الذى تقرؤه - - بالخطأ - فيذهلك السطر الذى تقع عيناك عليه لكأنه هو انت حين تجد لسان الكاتب يقول:

"إن عدم معرفته لما يريده أمر طبيعى جداً . لا يمكن للإنسان أبداً أن يدرك ماذا عليه ان يفعل . لأنه لا يملك إلا حياة واحدة . لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة و لا إصلاحها فى حيوات لاحقة . لا توجد أية وسيلة للتحقق أى قرار هو الصحيح لأنه لا سبيل لأية مقارنة . كل شئ نعيشه دفعةً واحدةً . مرة أولى و دون تحضير . مثل ممثل يظهر على الخشبة دون أى تمرين سابق . و لكن ما الذى يمكن ان تساويه الحياة إذا كان التمرين الأول الحياة نفسها ؟ هذا ما يجعل الحياة شبيهة دائماً بالخطوط الاولى لعمل فنى و لكن حتى كلمة " الخطوط الأولى " لا تفى بالغرض . فهى تبقى دائماً مسودة لشئ ما . رسماً أولياً للوحة ما . أما الخطوط الأولى التى هى حياتنا فهى خطوط للا شئ و رسم دون لوحة ... مرة ليست فى الحسبان . مرة هى أبداً . ألا تستطيع العيش سوى مرة واحدة كأنك لم تعش البته "


حينها تقرر ان تعود لتمسك بالقلم أليست فقرة كهذة تبدو انها و لو غفلة تحمل لك رسالة ما أن استمر ؟ تستكمل سرد وقائع لن تهم احداً سواك . هذا إن كنت حقاً تهتم.


تبدأ بالكتابة عن امتناعك التام عن تناول الطعام لما لا يقل عن أربعة أيام لا لشئ سوى أن فكرة ساذجة قد حامت فوق أفق رأسك الغبى أفقدتك شهيتك تماماً . و عندما يزعجك قلق المحيطين نحو امتناعك عن الطعام تزداد نفوراً . صخب خوفهم يملأ أجواءك صمتاً . يلقى بك بعيداً . غير أن مواصلتهم القلق بحماس أكبر - ما يفقدك صوابك - - ما هو مفقود منذ البدء - تجد نفسك تقرر ان تأكل وجبة يومياً إذا ما زاد الضغط و الاندهاش نحو قدرتك الشاذة فى مواصلة حياتك دون طعام . ما يجعلك تتعجب ان حتى عادة الطعام صارت وضعاً لابد منه ما هو غير ذلك يُعد خللاً بشرى لا يُغتفر . يأخذك احدهم امام المرآة لتحدق فى وجهك الشاحب و جسدك الذى كاد يتلاشى . تفهم حينها سر خوفهم . إلا انك لا تملك سوى بريقاً بعينيك الحزينة بأن ميعاد اختفاءك قد حان . أخيراً . ما يجعلك تُصر على استمرارك فى تمشيتك اليومية ما يقرب من ساعة دون ان تعلم إن كان ذلك مجرد سعى جاد و إمعان فى الانفراد بالذات أم أنه انتقام من المجهول بل ربما انتقام المجهول منك.

بعد ذلك يأتى ميعاد إقرارك بذنبك الماضى و الحالى و ربما ما سيلى . تعلم انك مصدر إزعاج لأسرتك الصغيرة . أغلب اللوم - حقيقة ً - يقع عليك . رغم انعزالك غير المقصود دائماً . رغم عدم تواجدك أحياناً . إلا أنك مازلت فى لحظات وجودك القليلة تفيض بذبذات سلبية تزعج الأهل . تعترف بخطأك سراً . يصعب عليك الجهر بالذنب فى الوقت الذى ينتظر الجميع حولك فعل ذلك . ربما لانك دوماً تمقت وضعك تحت المجهر فتتصرف تلقائياً عكس المتوقع حتى و إن كان هذا المتوقع ما كنت ستفعله وحدك دون إلحاح . يصعب عليك الجهر بالذنب نعم . ليس كبراً . لكنه شعور بالوقع وسط وطأة ضغوط عدة كل منها يشدك نحوه فتقرر أنت ان تقف تماماً عن الحراك فى أى اتجاه . فقط تغمض عينيك و تتساءل عن أبعاد الرحمة . فقط يحيرك دوماً إصرار الآخرين انك شخص مميز فى حين ينفى ذلك من هم منك مقربون . ما يتركك حائراً أيهم هو انت ؟ كم وجه تملك ؟ رغم اعتيادك للامر و استيعابك أن هذا شئ قابل للحدوث إلا انك تظل قابعاً فى دوامة هذا اللغز.

فجأة يفزعك إدراكك أنك قد مللت عملك بعد ثلاثة أيام فقط – ما يجعلك تعى انه ربما كان الخطأ فيك أنت وحدك أو ان لك النصيب الأكبر منه على أية حال - . فها أنت تمارس شيئاً لا تحبه على الإطلاق رغم جانبه الإنسانى - ما تخدع به نفسك احياناً لتشعر بالرضا نحو ما تفعل – فى الوقت نفسه تعلم أن الفكاك من عملك هذا دون إدراكك لوجهة محددة لن يزيدك سوى إخفاقاً . ترفض أن تبدوا ناكراً فضل يحسدك عليه كثيرون . لكنك بكل ضراوة ترفض أيضاّ أن تغيّر ترتيب اولوياتك لمجرد ان ترتيبها لا يرضى الآخرين.

تتذكر انك منذ البدء تظن أنك تعانى من فوبيا الغياب . فوبيا عدم تواجد من تحبهم حولك . ثم تصرخ على النقيض بأن ما تعانيه هو فوبيا وجودهم الدائم بجوارك و إدراكك ان لحظة ما سيتحولون لطبيعتهم الأولى سُحبا و يرحلون . ثم تفكر قليلاً قبل أن تصحح الامر .. إن ما تعانيه هو فوبيا وجودهم الكاذب .. وجود اللاوجود أو ربما لاوجود الوجود .. ما يضعك على اكتشاف أكثر حماقةً بأن ما تعاينه حقاً هو فوبيا التضاد.

يدهشك ان ينبع الوخز دوماً من الراحة التامة . ان يأتى شعورك من نقيضه فها أنت

1
وسط صحبة مميزة جداً .. أرواح تستمتع معها فكراً و حساً تجدك عاجزاً عن التركيز من شدة صراخ مارد الوحدة داخلك.
2
تجد نفسك أمام القمر المكتمل لا ترى سوى نقصانك.
3
فى أوج قوتك تدرك كم أنت أحياناً هش.
4
تبوح بمكنون صدرك فلا يزيدك ذلك سوى صمتاً و انعزالاً.
5
تدخل صومعتك . تغلق شرنقتك الصغيرة حولك . تحيط نفسك بكافة سبل الحماية فيصيبك شعور بالموت برداً.
6
يواسيك آخرون فتشعر بالاشمئزاز من موقفهم . يزداد اهتمامهم بصدق فتظل فى وجهتك نافراً بعيداً.
7
يعطيك بعضهم حرية تامة هاتفين " براحتك " فتشعر بهم يلقون حجر الحزن داخل بئرك الخاوى.
8
ترفض ان يشاركك أحد كل ذلك السم داخلك فتنشر تلك الكلمات علناً و انت تشعر بغباء تام يصحبة إدراك مضاد أن ذلك هو حقك.
9
تحيا لحظة ً رمادية كتلك بضمير تام . تكتب عنها و انت تعى أنك ربما قبل إنتهائك من السرد تكون قد تغيرت تماماً . تعلم ان كل ذلك الضباب فوقك عابر رغم ذلك تتنفسه بعمق ربما لعلمك أنك كموجة بحر تعلو حتى تبلغ القمة ثم تعود و تهبط حتى يخالها البعض قد تلاشت فى القاع فى حين أنها تردد حركاتها بصورة دورية مستفزة . و كأنها تولّد فى دورتها المتتابعة تلك إيقاعها الخاص.


تتعجب ان كل تلك الصور قد سكنت جوفك معاً عازفةً هارمونيكا الاختناق . أدوماً تتآمر الأشياء بتلك الحرفية الهادئة ؟ فى الغالب أنت تعطى تلك الأسباب السخيفه جمعاء أكبر كثيراً من حجمها لكن يرهقك الشعور بأن الضغط يسكنك وحدك دون ملاذ تلجأ إليه . ما يجعلك تحاول دفع كل شئ بعيداً بأية رؤية حتى و إن كانت ليست صائبة . كى تخرج من دائرتك الصغيرة نحو دائرة اكثر شمولاً . أكثر تعقيداً . تشمل آخرين معك . و لأنك لا تعرف كيف تختم كلاماً سخيف كهذا . تترك قلمك و تمسك رواية تقرؤها لاستكمالها من جديد و حين يذهلك أول سطر كان عليك البدء منه اليوم تمسك قلمك سريعاً مقرراً أن تختم بتلك العبارة هذا الحديث الذى لا داع له.

" مصيرى الشخصى يتوقف على التخلى عن أمرين : تبرير المتعة و تضخيم الحنين . عاملان أساسيان كنت بحاجة إليهما إذن .. الزمن و الصدفة . " 
 
 

ليست هناك تعليقات: